المقالات

فسحة للعقل وسط الغضب لله ورسوله!- بقلم: فادي شامية-

بكل أسف، فقد فرض بضع نكرات-لم تُعرف أسماؤهم الحقيقية بعد- عملهم مادة تشغل العالم. لم يحصل هذا الأمر بفضل جودة إنتاجهم مهنياً، ولا بفضل شناعة ما اقترفوا أخلاقياً، ولكن بفوضوية وحماقة كثير ممن هبوا نصرةً لله وللرسول!.

بذلك؛ حقق “أعداء الله” مرادهم، بعدما يئسوا –كما يئس كل من سبقهم- في النيل من أعظم إنسان في التاريخ؛ محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم). حقيقة عظمة محمد (ص) لا تخفى على عاقل، وحبه “حتى الجنون” لدى المسلمين لا يحتاج إلى برهان، والتقليل من مكانته لديهم غاية لم تدركها أعتى أنظمة القمع الشيوعية-فكيف بحفنة من الناس- … هذا كله يعرفه –بالتأكيد- أولئك الذين أنتجوا فيلماً مسيئاً أسموه “براءة المسلمين”، لذا فقد راهن هؤلاء –بالتأكيد أيضاً- على غضبة المسلمين، لتأليب الناس عليهم وعلى دينهم، وقد حققوا ما أرادوا بنِسَب لم يظهر حجمها بعد!.

ما سبق؛ لا يعني أبداً سكوت المسلمين على أي عمل يسيء لدينهم ولنبيهم، ولا يعني بالضرورة ألا يغضبوا ممن “آذى الله ورسوله”، وليس معناه ألا يتظاهروا من أجل نبيهم في كل مدينة وحي في هذا العالم بشكل حضاري، ولكن الغضب لا ينبغي أن يُذهب البصيرة، فيقوم الغاضبون بما خطط له الحاقدون، وينصر المتظاهرون لا الإسلام وإنما أعداءه!

لزوم هذا الكلام هو تلك الفوضى المجنونة التي شهدتها مدن إسلامية عدة، تحت شعار “إلا رسول الله”، بما يسيء إلى الإسلام ويُغضب رسوله؛ إذ ماذا يعني قتل سفير لا علاقة له بالفيلم المسيء، وهو ربما لم يسمع به. هذا السفير المسكين هو ضيف له حصانة في المفهوم الوطني، وعقد أمان بالمفهوم الشرعي، فكيف يساء له إلى درجة الاعتداء الجنسي قبل قتله، واقتحام سفارته في بنغازي وإحراقها… وكله تحت شعار الغضب للرسول، فهل هذه أخلاق الرسول(ص)، وهل يجوز أصلاً قتل المُستأمن، وقد أجار نبي الرحمة من أساء إليه وشتمه زمن النبوة، لأن واحدة من المسلمين أجارته (أم هانئ) وهو في ذروة انتصاره يوم فتح مكة، انطلاقاً من قوله: “ذمة المسلمين واحدة –أي أمانهم صحيح- فمن أخفرها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين”؟!
ثم ماذا يعني حرق محال تجارية في طرابلس (لبنان) ذات صلة بشركة أمريكية عالمية؟ ما علاقة ذلك بالفيلم المسيء، وقد علم الفاعلون أن مستثمريها والعاملين فيها والمستفيدين منها لبنانيون، وأن زبائنها كثير منهم إسلاميون، يصلّون ويصومون ولا يجدون حرجاً في الدخول إلى محل لبيع “الهمبرغر” أو الدجاج المشوي؟ أليس حراماً أن تزهق روح إنسان بريء –وهي أعظم عند الله من زوال الكعبة كما في الحديث- لأجل تافهين استفزوه فوجهوه إلى غير ما ينبغي، حتى صار في مواجهة قوى الأمن -أبناء بلده- الذين يريدون الدفاع عن مصالح المواطنين… أو حتى عن السفارة الأمريكية!     

لم ينجح الحاقدون بهذا وحسب، وإنما الخسائر السياسية هي أكبر من إظهار المسلمين –أو بعضهم- بهذا الشكل غير الحضاري:

أولاً: لقد نجح المسيئون للإسلام في توجيه ضربة كبرى لعصر “الربيع العربي” برمته؛ باعتبار أن هذا “الربيع” يحمل رسالتين متلازمتين؛ زوال أنظمة الطغيان، وانتصار الاعتدال الإسلامي. لقد كان الواقع السياسي قبل “الربيع العربي” قائماً على متلازمة إشاحة الغرب نظره عن ظلم الأنظمة الظالمة للشعوب التي تحكمها، مقابل مواجهة هذه الأنظمة لـ “الخطر الإسلامي”. تحت هذه المعادلة اضُطهد الإسلاميون جميعاً، وبرزت “القاعدة” في رفض ظلم الغرب وحلفائه في المنطقة، لكن ثورات العرب أنهت هذه المعادلة، فقطعت الطريق على أسلوب “القاعدة” المتطرف، وأسقطت أنظمة الظلم، وأوصلت الاعتدال الإسلامي إلى الحكم… حتى صار الإسلاميون أنفسهم في مواجهة التطرف (في مصر بعد حادثة سيناء على سبيل المثال)، بمعنى آخر؛ فإذا كانت أنظمة الظلم استحالت فلولاً، فإن طروح “القاعدة” لم تعد تجد من يشتريها، لكن هذا الواقع اهتز عندما ظهرت رايات لـ “القاعدة” في عواصم عربية، استغلت مشاعر المسلمين، فنفذت هجومها على سفارة الولايات المتحدة في بنغازي، وظهّرت نفسها في أماكن أخرى، وتالياً فإن شريك المعادلة السابقة على “الربيع العربي” أي الطغاة، باتوا في سعادة: “أرأيتم هذا الذي كنا نحذر منه”!.

ثانياً: نجح “براءة الإسلام” الملعون، في الإساءة إلى علاقة المسلمين بالغرب، بشكل قوي، وإلى علاقة المسلمين بغير المسلمين على الصعيد الوطني بشكل أقل قوة لكن أكثر خطورة. تمثل الضرر الأول في التحركات الغاضبة تجاه السفارة الأمريكية، وتحميلها كدولة وزر ما صُوّر على أراضيها (دون أن تتبناه بل أدانته)، وذلك بعد فترة من تراجع كراهيتها في المنطقة، وهي فترة كانت تعول الولايات المتحدة عليها –كما أنظمة “الربيع العربي”- لصياغة علاقة جديدة مبنية على الاحترام المتبادل (بدت وزيرة الخارجية الأمريكية مصدومة مما جرى في بنغازي بعدما أسهمت فعلياً في وقف هجمة القذافي عليها وقتل أهلها). أما على الصعيد الوطني فقد شهدت مصر إرهاصات غير مطمئنة، حول علاقة المسلمين بالأقباط، بعدما تبنى أقباط في المهجر التسويق للفيلم، وهذا أخطر ما في الأمر، لأنه سينعكس على علاقة المسلمين بغير المسلمين جميعاً، ولا سيما العرب منهم، في وقت أحوج ما يكون فيه المسيحيون إلى من يطمئنهم من الهواجس التي توضع أمام بقائهم في أوطانهم؛ قيمةً إضافية لهذه الأوطان، وتأكيداً عملياً يقدمه المسلمون للعالم عن تسامحهم مع مخالفيهم!.

ثالثاً: وضع المسيئون للرسول (ص) الاعتدال الإسلامي -الواصل حديثاً إلى الحكم- أمام شارعه الغاضب، إذ لا يقدر نظام يمسك به الإسلاميون أن يتشدد مع شارع غاضب ومؤيد له، ولو بالغ في ردود أفعاله، كما لا يقدر على السكوت بالمقابل عما يمس معتقداتٍ لطالما كان يرسخها في عقول وقلوب الناس. أظهر هذا الواقع معضلة أمام الحركات الإسلامية الصاعدة، باعتبار أنها انتقلت فجأة من معارضة مقموعة إلى نظام حاكم، وتالياً فليس من السهل أن تنقل أي حركة -صاغت أدبياتها طيلة عقود على أنها معارضة تنتقد كل شيء-، فتجعله خطاب دولة طفرة واحداً. تحت تأثير هذه المعضلة التي استغلها “أصحاب فيلم البراءة” تضررت فعلياً شعبية الرئيس محمد مرسي، إذ ظهر أمام كثير من الإسلاميين – دون وجه حق- وكأنه يحامي عن السفارة الأمريكية المسؤولة برأي هؤلاء عن هذا الفعل الشنيع، مع أن مرسي طلب من سفارة بلاده في واشنطن اتخاذ خطوات قانونية بحق المسيئين للرسول، كرد فعلٍ عملي عليهم، لكن الشارع الغاضب لم يفهم ذلك، كما لم يفهم ما اعتبره بروداً في رد فعل الحكومة التونسية، وقس على ذلك.

ما قبل “براءة الإسلام” وما بعده سيبقى محمد (ص) أعظم بني البشر -أقله في معتقد المسلمين-، لكن ما بعد هذا الفيلم المسيء ينبغي فعلياً أن يفكر كل من يعنيه هذا الإسلام وهذه المسيحية، والعلاقة بينهما، كيف يمكن استدراك أحداث كالتي وقعت قبل أن تقع، وكيف يمكن أن يرفع المسلمون تحديداً – والإسلاميون منهم على وجه أخص- من وعي الشارع، حتى لا يصبح غضبه موجهاً نحو نفسه، فيفرح حينها “أعداء الله ورسوله”!.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى