المقالات

شد الحبل – كتب: د. قصي الحسين

طريق لبنان، ليست سهلة الآن. هكذا كانت منذ قديم الزمان. غير أن ما يحدث للبنان اليوم. وما يحدث في لبنان. وما يحدث في العالم، على لبنان، هو ما لا يتصوره عقل. هو ما لا يتحمله إنسان.

عرف لبنان في القديم، كل أشكال الإضطهاد. لم تبق أمة في الأرض، إلا وإضطهدت لبنان. لم تبق دولة في الأرض، يحسب لها حساب، إلا وفتحت لها حسابا في لبنان. لم تبق إمبراطورية، لم يبق فاتح، لم يبق طاغية، إلا وسولته نفسه الإنقضاض على لبنان.

شعب آمن مسالم، يحب العيش، يحب الحياة. لا هم له، ولا شأن، إلا أن يكون إلى جانب الأمم والشعوب، في تعاون دائم. وفي تآخ دائم. وفي تواد وحب، وتبادل خبرة وعمل وخدمات.

لم تكن طريق لبنان، سهلة بين الأمم، قديمها وحديثها. كانت، كما وقعت للبنانيين. كما خبرها اللبنانيون، كما أصابت منهم وكما أصابوها، طريقا شائكة متعرجة. طريق لبنان، على الدوام، كانت على حروف الجبال، وفي مهاوي الوديان. وفي عمق الواحات والصحارى. وفي أعماق البحار و المحيطات.

هكذا كانت طريق لبنان، منذ قديم الزمان. أهوال خلف أهوال. ومخاوف، ومفازع، ومصائد وعواصف وأمواج، قلما ينجو فيها اللبنانيون. قلما، ينجون منها. فكانوا كلما قطعوا قطوعا، أقاموا إحتفالا، بمنجاتهم، وذبحوا أضحيات كفارة. وأمسوا يتبادلون التهاني لنجاتهم، مما كانوا يحسبون له ألف حساب.

اليوم إختلف الدهر على لبنان. أضيف إلى همهم القديم، من غيلان الدروب، هم جديد. هم مستجد، جائحة ربما، مستجدة، مثل جائحة كورونا: شقت عصاهم. وصاروا فجأة ك”تفاريق العصا”. يشرقون. يغربون. يتهمون. ينجدون. كل على حسابه. لا يأبه للبلاد. ولا لحكومة البلاد ولا لمصالح البلاد والعباد.

كان اللبنانيون في الماضي القريب والبعيد، يعانون من تقطع السبل بهم. أما اليوم فهم يعانون من تقطع الحبل بهم. من تقطع حبلهم. من إضطراب حبلهم. فقدوا وحدتهم. تشتتوا ميمنة وميسرة، فإفتقدوا أخوتهم. أخوتهم. إفتقدوا صداقاتهم. إفتقدوا أصدقاءهم. إفتقدوا كل من كان يمد لهم، يد المساعدة ويد الخير.

هاهي الأمم كلها، تتداعى عليهم، وهم في أسوأ أحوالهم. لا يجمعون على رأي واحد. ولا يسيرون في طريق واحد. يعاكس بعضهم بعضا. يقاتل بعضهم بعضا. يناكف بعضهم بعضا، وهم على سفينة متهالكة. على سفينة هالكة، أسوأ بآلف المرات، من سفينة النيترات. نيترات الأمونيوم، التي فجرت المرفأ، وفجرت بيروت، وفجرت لبنان.

يعاني لبنان اليوم من تفلت الحبل في البلاد. من تفلت حبل الحكم في البلاد. من تفلت حبل الاحزاب. و إضطراب حبل الزعماء وحبل القيادات، وحبل النقابات. يعاني لبنان اليوم من تفلت حبل المهربين، وحبل الفاسدين، وحبل الطائشين، وحبل الطوائف وحبل المارقين. يعاني لبنان اليوم من حبل السلاح، ومن حبل السلاح المتفلت.

يعاني لبنان، من حبل الإدارات المتفلتة والمضطربة، ومن حبل الوزراء و الوزارات المتفلتة والمضطربة. يعاني لبنان اليوم من حبل الرئاسات المتفلتة.

لم يعد في لبنان من سياسة محكمة بطرفي حبل. ولا من سلطة محكمة من طرفي حبل. ولا من عدالة ممسكة بطرفي حبل. ولا من سياسة خارجية، ولا من سياسة داخلية. ضاعت خارطة الطريق للتغير والإصلاح في لبنان، في هذا المهمهان، وتقطعت بها السبل الداخلية والخارجية. وتقطع الحبل. وإضطربت البلاد. وإضطربت القيادة السياسية. وإضطربت السياسة الخارجية. وإضطرب حبل الأمن.

حبل كثيرة العقد، هي الحبل التي تشد اللبنانيين إلى بعضهم. حبل متقطعة فاسدة، هالكة، أبلتها أحابيل السياسيين، وأحبولاتهم، التي نصبوها، لتنصيب أنفسهم عليهم مدى الدهر. ضاع طرفا الحبل، في كثرة الحمولة. ضاع طرفا الحبل بين أحزاب مسلحة بترخيص، وحزب مسلح لا يحتاج لترخيص. ضاع طرفا الحبل، بي شرق وغرب. بين شقيق وصديق. بين عربي وأعجمي. ضاع طرفا الحبل، بين محور الممانعة، وبين محور الإرادة المانعة.

حبل مقطعة، متقطعة، معقدة . حبل واهية مهلهلة. حبل رخوة، غير مشدودة. حبل بلا طرفين. حبل لبنان واللبنانين اليوم. حبل تائهة، مثل الأمن مثل السياسة الداخلية، مثل السياسة الخارجية، مثل السفية الغرقى بلا قبطان. بلا رأس.

حبل، كان عليها أن تشتد في الأزمات، لتحكم الربط بين اللبنانيين. لتحكم الربط بين اللبنانيين وبين العالم الخارج. لتحكم الربط بين اللبنانيين والدول الشقيقة والصديقة. لتحكم الربط بين اللبنانيين وتاريخهم ومصالحهم. ففاجأت الجميع وهم في هول الأزمة. في أوساطها. أنها حبل تحتاج إلى شد. عرف معاوية كيف يشد الشعرة بينه وبين الناس، ولم يعرف حكام لبنان أن يشدوا الحبل، لا بين اللبنانيين أنفسهم، ولا بينهم وبين الآخرين. حبلهم رخوة فاسدة مليئة العقد، لا يحسن الشد بها، وأناس، بل شعب، بل أهل، يحتاجون إلى حبل، إلى سياسة، تحسن دهاء معاوية. حبل تحسن الشد.
قال معاوية: “لو كان بيني وبين الناس شعرة ما إنقطعت. قالوا كيف. قال: إذا شدوا أرخيت. وإذا أرخوا شددت”.

د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى