المقالات

شهد الكتابة \ د. قصي الحسين

في كل نص، أثر فراشة. أقدام نحلة. خيط من الماء ينسرب. أو خيط من الدمع. أو بعض قطرات من الأحمر القاني، ضيعت الدرب. خرجت لتوها من القلب المكلوم، لتوقظ الورق الأبيض، لتعيد إليه يقظة الكتابة، الحلم بيوم جديد، مع الصباح الجديد.

هكذا هو صالح الأشمر، في كتابه القديم الجديد: ” معزوفة لجمال العيش. منشورات دار الجمل. بيروت- بغداد2018. 150 ص تقريبا”.

يغرف من ثقافة نفسه، مثل نحل القفير، ليصنع قرص الشهد. يتحف به المملكة.
“شهد الكتابة” عند صالح الأشمر، إنما هو صنيع نفسه. صنيع ثقافته. صنيع، بل نسيج، بل دبيب ذاتوية تتأنى كثيرا في تذوق الزهر، على الثغر. تماما كما تتأنى أنامله تذوق الورق الأبيض، يسيل دورقا في جدول. في أمواه نهر. نستمع إليه يقول في “معزوفة لجمال العيش- ص7”:
(… مثل خفق جناحي حمامة على غصن مياس، تطير فجأة في ضوء قمر، أسمع صدى ضحكة الحبيبة، في ليل الأرق اللذيذ.)

نخل صالح الأشمر قمح القرى( بكسر القاف)، وصنع منه قرص ثقافة، يقدمه للقارئ. قارئ نفسه. في كل ثقافي يمازج فيه، الشعر النثر. تماما كما يمازج العسل أقراص الشهد. ولا غرو، ألم يذهب في كتابه الذي بين يدينا، إلى شهد الكتابة دفعة واحدة، بكل إمتياز. نسمعه يقول في ” رحلة الصباح نحو المساء- ص64″:
(… أطرق نافذة الصباح. أوقظه من نومه. ينزل عن سريره. يمضي… يغسل وجهه … يسرح شعره.).

درب النحل، هو كتاب صالح الأشمر: “معزوفة لجمال العيش”. تتكئ النفس على بعضها، تتذوق الجمال في مواضعه. تنقله فتافيت فتافيت إلى طبق القارئ: تقاليد. ومعازيف. وخيالات. ورؤى. تصنع للجمال عرشا. مداميكه، هاتيك النصوص الأخاذة التي، منها شميم عرار النجود. وأحلام الورود، وطيب أزرار قميص، سقط من أنامله على وجه الأرض. ثم سحب أذياله، ولوح بها للشمس. ليرى وجه معشوقة غابت وراء الشمس. نسمعه يقول في نجوى القمر في ليلة العيد- ص65:
( الكلام الوحيد الذي يصلح للتواصل مع القمر في الليل الساجي، …لليلة صيف نيلية. لا بل تنسى نفسك..كيانا يقف على قدمين، وينظر بعينين، تجاه الشمس.)

نصوص صالح الأشمر، مثل التواشيح يصنعها لعروس الأدب. تقاليد عفوية عريقة، في نفسه: فتى ويافعا وشابا، وصبي مروج وحقول ووهاد وبساتين وكروم. وحلم بدر، يتوسط السماء، يرعى النجوم. يقول في “الأصحاب في المقهى-95”:
(… وعلى ما قال المجنون وهو يلف ويدور حول أطلال المنازل التي حلت بها ليلاه.. )

أية جمالية أخاذة، تلك التي صنع منها، صالح الأشمر، قرص شهده. شهد الكتابة. أية جمالية أخاذة، نشرها صالح الأشمر على عمود الكتابة، ثم إستراح في ظلها يكتال هوى العمر، فرحا. مرحا. وترحا. لشباب يوادعه، ويواعده، مودعا. يقول في “رائحة مطرة الخريف التي لا تنسى- ص126”:
( ذات يوم من أيام تشرين الأول، كنت في إستراحة على كتف وادي الليطاني… هناك شربت فنجانا من القهوة في كوخ صديق من بلدة ميماس… كانت الارض رطبة، من أثر الرذاذ.. أميزها من بين سائر الروائح.)

جمالية نقل العسل، من أكمام الورد. هي تلك الجمالية التي تترك أثرها في النفس، حين تحادث متلقيها، فينفعل لها الصغير والكبير..كيف لا، وأنا لا أجد من لا ينفعل، بأكمام الورد، يقدمها لنا صالح الأشمر، باقات باقات. أو ضمامات ضمامات. يحط مثل أثر الفراشة، على الخد، ثم يطير. نستمع إليه يتابع قوله، في “المقالة نفسها- 127”:
( … رائحة مطرة الخريف الاولى في قرية مجدل سلم الوادعة، كانت تختزن كل الروائح الزكية… إنكشفت عنها المياه منذ بدء الخليقة.)

روايات وأخبار وحكايا وتسالي، صالح الأشمر، تغرف من بئر القلب. ثم تعود لتمطر، كما العادة في القلب. حدوثات فيها رحيق العذوبة. ولمع ولمح، تبرق على ثغر القارئ، تماما كما برقت على ثغر الكاتب ذات صيف، ثم تذوب في النفس، تماما كما شهد الكتابة.

يروي الروايات، كما “سف هيقل”. كما سيف “ثغر عبلة”. كما صبيحة ليل الدجن. تأخر صالح الأشمر عن النهوض، من وحدته القاسية، كقلع ضرس، حين سبقته الريح العروس، في الطيران إلى مخدع الآلهة. إستمع إليه يقول في ” الكتاب على الرصيف لا أحد يلتقطه- ص134″:
( كل ذلك تستحضره المرأة التي لا تستطيع أنت أن تكون حاضرا… هكذا يكون كتابك هو “أنا” ك الآخر.)

لا تجد من لا ينفعل، حين يقرأ نصوص صالح الأشمر. إنه الإنفعال الحميمي العذب، كأثر فراشة تداعب ربيع القلب، في المطرة القادمة. حدوثة من هنا. وحكمة من هناك. وفتيت رغبة، بزغت من طوية النفس. وتخليد برهة مع المحبوب، وضوع أريج وحسن. ومسك. كل هذا هو أدب صالح الأشمر، وأكثر.

إنها “العهدة الأشمرية”، وضعها الصالح، وغاب عنها. نتذوق كلما عدنا إليها شهد الكتابة، وشهد الأدب. تتداخل رواياته الذاتية الصنع. مثل أطباق عروس ريفية. شغلتها بيديها. وأفتتنت بها. جعلت فيها، ما في نفسها. زينتها، وصففتها. وجملتها. ثم ها هي تدعونا للتجمل بها.فبانت وكأنها “معزوفة لجمال العيش”. نستمع إليه في ” كتابك بين يدي من تهوى- ص138″;
(… إن يكن كتابك بين يدي إمراة لطالما تمنيت أن تكون أنت بين يديها… حضورك بين يديها شخصا محسوسا ملموسا.).

الله! ما أروعك يا صالح الشمري/ الأشمري. لا أعرف ماذا أقول، وقد بهرتني هاتيك المأدبة التي دعوتني، للإئتداب منها. وقلت لي،كما قال طرفة بن العبد لأخوانه، في حنينه لإخوانيته:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى/ ما ترى فينا الآدب ينتقر.

دعوة الجفلى/ العامة، جعلتها لنصوصك الأخاذة. وأنا أدعو لها دعوة النقرة/ الخاصة، حتى التذوق. تذوق “شهد الكتابة”. لله ما أحلاك!. لله ما أعظمك!. أيا “صالحا في ثمودك”!.

د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى