المقالات

سمر الحاج… لقد خسرتُ أماً ثانية! كتبت : رندلى جبور

اليوم خسرتُ أماً ثانية… سمر الحاج و١٦ عاماً معاً في الدمع والابتسامات…
عرفتُها بعد اعتقال الضباط الاربعة مباشرةً… حملتُ قضيتهم في بداية حياتي المهنية ولم أكن أعرفهم. لقد تلمّستُ بحسّي الانساني وحدسي الذي نادراً ما يخيب، ان ظلماً يصيبُهم. تبنّيتُ القضية وحملتُها في تقارير متتالية لي في إذاعة صوت الغد- الاخبار آنذاك بمباركة من الجنرال ميشال عون.
وبعد عدة تقارير وصَلَت الى سمر الحاج، طلَبَتْ من رئيس التحرير في وقتها حبيب يونس أن يجمعني بها.
كانت تنتظر ان تلتقي بامرأة ستينية ناضجة معتصرة بالخبرات والتجارب وترتدي كعباً عالياً وتصفف شعرها باستمرار…
وكانت صدْمتُها الكبرى أنني كنت فتاة في الحادية والعشرين من عمري بشعر مربوط وملابس sport. وكانت ردة فعلها الاولى ان هتَفَت: “يا حبيبتي إنتي يا زغيري اللي حاملي هالقضية الكبيري”… وغمرتني بحُب، ومذذاك لم نفترق!
وقفتُ الى جانبها والى جانب زوجها اللواء علي الحاج في اعتقالهم الظالم وهو كان يستمع الى صوتي في سجنه ليستمدّ مزيداً من الصبر، وكنتُ من أوائل من التقيت به بعد خروجه الى الحرية المستحقة.
كثّفتُ زياراتي لهم وصرتُ صديقة العائلة بامتياز.
سمر باتت بمثابة أم ثانية لي وتناديني “يا بنتي يا رنرون” واللواء بمثابة أب بطيبة فائقة وصلاح وجاد هما أخواي.
أبواب بيتهم كانت مفتوحة لي دائماً وحضن سمر وهاتفها كذلك حتى الايام الاخيرة.
تبادلنا الافكار الكثيرة. بكينا معاً وضحكنا معاً. عشنا معاً أصعب اللحظات وأجملها. كثيراً ما نمتُ في سرير منزلهم في برجا وكثيراً ما سهرنا حتى الصبح في بيتهم في بيروت. كان بيننا الخبز والملح والحب الكبير.
انضميتُ الى سفينة مريم لكسر الحصار عن غزة والتي كانت سمر عرّابتها. وذهبنا معاً في عدة رحلات الى سوريا. تشاركنا غرفاً واحدة وأحلاماً واحدة وهواجس واحدة. حكينا بالخاص وبالعام وبتفاصيل التفاصيل من داخل البيت والعائلة الى ربوع الوطن.
عرفتُ قصصهم بكل ما فيها وعرفوا قصصي وتفاصيلي. أتذكرين يا سمر القصة إياها مع سرجون؟ والقصة مع عبدلله؟ وغيرها الكثير مما لا يعرفها غيرك؟

أمّنت لي سمر وعائلتها الحماية حين تعرّضتُ لحادث أمني هو عبارة عن سرقة ملفات حساسة من سيارتي بأمر من أحد الاجهزة، وبقيتُ في منزلهم أياماً بصبحها ولياليها.

اتكأتُ على كتفها مراراً وسنَدْتُها بعاطفتي تكراراً.

رأيتُها المقاوِمة المتميزة والصابرة على الالام والمرأة المملوءة إحساساً في آن.
رأيتُها المناضلة الشرسة المتمسكة بالحق ورأيتُها المتعبة في سرير الوجع.
سمعتُها تعلّق على الاحداث الكبرى بفكر مبدئي ثابت، وسمعتُها تُنكِّت على تفاصيل صغيرة بروح فكاهية عالية.

صداقتُنا من أجمل الصداقات وأنقاها. وتعرّفتُ على أصدقاء من خلالها وتعرّفَت هي على أصدقاء من خلالي وما زلنا مجموعة متجانسة تجمعها المبادئ والوطنية والمشاعر الطيبة والدموع والضحكات.

رفعنا كأسنا معاً في جميل الايام، وشربنا المرّ معاً في كؤوس الالام.

ثوابتُنا إياها واتفقنا في معظم التحليلات وتشاركنا المعلومات والنشاطات.
وكانت دائماً تدعوني الى المناسبات العائلية التي ما شعرتُ يوماً أنني غريبة عنها.
معها تكسَّرَت كل الحواجز والفروقات الدينية والعمرية والمناطقية.
معها كنتُ الطفلة المدللة وفي الوقت نفسه القارئة الناضجة للأحداث.
شجَّعَتني على المضيّ قدُماً على درب الحياة والنجاحات، ورأت فيّ الفتاة الذكية القادرة على الوصول الى بعيد.

كنتُ ابنتها التي لم تلدها كما كانت تردّد دوماً، وكان هذا فخر لي وقصة حب مجانية رائعة الجمال.

وكنتُ إذا أطلتُ الغياب تتصل وتقول: “نحن هون… حضني في انتظارك وكذلك سريرك في بيتنا وأنا وعلي والاولاد اشتقنالك كتير”…

آه من الشوق يا سمر، ذاك الذي يأكلني بفقدانك. آه من القوة التي انكسرَت بغيابك، انت التي كنتِ القوة ومانحتها.

كنتِ كلما أعبّر عن خوفي عليك ترددين: “ما تخافي عليّ أنا قوية المهم إنتي تضلّك قوية… أنا منيحة منيحة”!
لن نكون “مناح” يا سمر من دونك.
خدّي بارد بلا قُبلتِك، وقلبي جليد بلا غمرتِك، وذكرياتي معك تأخذني الى الحنين الموجع.

منذ مدة أرسلتِ لي نصاً صوتياً تطلبين فيه أن أزورك… قلتِ عدة مرات بصوت متعب: “تعي يا إمي تعي، اشتقتلك وبدّي شوفك… رنرون مشغول بالي عليكي ولو فيي انا روح لعندك كنت رحت… رنرون نحن ناطرينك ما تطولي… ما تطولي يا إمي… علي والاولاد كمان اشتاقولك تعي ناطرينك…”
لم أحمل الانكسار وحاجتك لي في صوتك، فاتصلتُ بصديقتنا المشتركة ريما فرح وأنا يلقبونني بريما الزغيري تيمناً بها، وتوجهنا الى برجا.

كم هو جميل الوقت الذي أمضيناه معاً كما العادة. تذكرنا وبكينا وضحكنا وتناقشنا بكل المستجدات. وأنا أهمُّ بالمغادرة كنتُ خائفة عليها من كورونا ولكنها دعتني الى غمرة كما العادة وقالت: “تعي يا إمي لوين رايحة هيك بدّي بوسك”… وغمرتني وقبّلتني على كتفي.
وبعدها بعدة أيام، دعتني ريما فرح الى عشاء سمك في منزلها. قالت لي: “سمر منيحة ورح نلتقي كلنا عندي”… كنا انا وريما وشقيقتها جاكو وسمر ونسرين ناصر الدين وصديق سوري.
كان قد مضى وقت طويل من دون أن نضحك كما فعلنا في تلك الليلة. وكانت سمر مبسوطة. كان قد مضى وقت طويل من دون أن نعلّق على أنفسنا أولاً وعلى أصدقائنا وأيامنا الغابرة…

وما أن مرّ أسبوع حتى أبلغتني ريما بأن سمر في المستشفى وهذه المرة كما نادراً معنوياتها “مش منيحة”.
كانت تلك واحدة من أبشع لحظات حياتي. أردتُ ان أكون بجانبها لكن ضوابط المستشفى منعتنا.
صليتُ كثيراً ولكن إلهنا الذي كانت مؤمنة برحمته اختارها لتنتقل الى جانبه.

سمر، ١٦ عاماً بلا انقطاع وحب كثير.
سمر يا إمي كما كنتِ تناديني بكسر الهمزة، خسارتي اليوم هي تماماً كما خسارة اللواء وصلاح وجاد وزوجاتهما والاحفاد والاصدقاء المقربين، بل هي خسارة موجعة مليئة بالدمع لكل من عرفك عن قرب.
هي ألم عميق ممزوج بالذكريات والاوقات المشتركة التي لا تشبه غيرها.
سمر… ماذا عساني أقول في وداعك أيتها السند!
اي ملح يمكن أن أسكبه وأي غصة أكتبها وبماذا أفكّر وقد تعطّل عقلي وجفّ دمي؟
من أعزّي قبل؟ نفسي ام العائلة أم الاصدقاء؟

سمر… أيتها الواقفة أبداً بنبض لا يخفت، أيتها الصارخة بالحق بلا هدنة، أيتها الام والصديقة، أيتها الصوت بأبعادٍ كثيرة، أيتها القوة التي ترفض الاستسلام، أيتها الحنونة والكريمة والنظيفة، أيتها الزهرة في حياتنا، سيكون بستاننا باهتاً من دونك، بلا لون.

أشتاقك سمورة وسأفتقد للأعوام الطويلة التي كبرتُ فيها وكنتِ هنا. سأفتقد لكلماتك ولأحاديثك، لاهتمامك ولأخبارك ولأسئلتك.
سأفتقد لكل الايام التي قضيناها معاً، لمشاويرنا ولقاءاتنا وجلساتنا.
سأفتقد لرنرون التي كنتُها بحضرتك. فبعدك سيتغيّر الكثير ولو كنتِ مزروعة في شرايين القلب.

سمورة، اليوم كانت المرة الاولى التي أنظر فيها إليك ولا أجرؤ على الاقتراب مع أنني كنت أريد أن أرتمي في حضنك الذي ما زال دافئاً.
وهي المرة الاولى التي أذهب فيها إلى برجا خالعةً عني ابتسامتي وحماسي واستعجالي، وأرتدي الاسود والدمع الغزير.

سمورة، خرجتِ من بيتك لا من المستشفى الى موطنك الابدي كما أردتِ تماماً وبسلام. اما انا فانكسر سلامي برحيلك.

ولكنني مع ذلك لن أبتعد عن هذا البيت الذي احتضنني سنين وعن اللواء والدي الثاني الذي يستقبلني ويودعني دوماً ب”الله يرضى عليكي”… اليوم رددها أيضاً رغم فاجعته. وأعدك يا سمورة أنني سأبقى الى جانبه والى جانب صلاح وجاد كما مع والدي وإخوتي.

أحبك سمورة ولن أفيك حقك مهما كتبت وبكيت، مهما تذكرت وشقيت، الى أن نعود ونلتقي وأرتمي بحضنك من جديد.
والى ذلك الحين أترك انا على جبينك قبلة بدلاً من ان تطبعيها أنت على جبيني كما كنتِ تفعلين!
الى اللقاء يا إمي الثانية… الى اللقاء سمر الحاج!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى