المقالات

نسل وطني مشوه بقلم/ توفيق أبو شومر

كثيرا ما كنتُ أتساءل:لماذا تنجح دولٌ كثيرة في توظيف الفسيفساء العرقية والإثنية لخدمة الوطن،بينما تكون الفسيفساء العرقية والطائفة في دول أخرى مصدرَ حروب وصراعات؟ولماذا ازدهرتْ العلوم وانتعشتْ المجتمعاتُ العربية في العصر العباسي متعدد الأعراق والأجناس ، أكثر مما كانت عليه في العصر الأموي الذي كان متعصبا للعرق العربي مثلا؟أليست الحضارة العربية في الأندلس ثمرةَ من ثمار الامتزاج بين الأجناس والأعراق والثقافات؟لماذا تستقطب دولٌ كثيرة كفاءات الأجناس المختلفة، بدون أن تخضعها لمقاييس النسب والحسب والسلالات والأعراق؟ولماذا تكون الأقليات في الدول الجاهلة والضعيفة والفقيرة مصدرا للاضطرابات والقلاقل، بينما هي في دول أخرى شاراتُ زينة فوق أعلامها وراياتها؟ أسئلة تحتاج إلى دراسات أنثروبيولوجية وديمغرافية حتى نعرف الأسباب الحقيقية لذلك!غير أنني أستطيعُ أن أضع علامات في طريق الإجابات، منها أن الدول التي ما تزال ترى في الديمقراطية عدوا لدودا لها، هي الدول التي تضطهد الأقليات وتطردها، لأن الأقليات في الدول غير الديمقراطية، تحاول أن تتميَّز عن العرق السائد في الوطن، فتتولى إدارة الثروات والصناعات والمهن الخدماتية المربحة، وتجلب لذلك حسد الطبقة الاجتماعية السائدة ، والتي تتصف في الغالب بالجهالة والضحالة والعصبية والتطرف!كما أن المجتمعات التي تضطهد الأقليات وتنبذها هي مجتمعات ليس لها نصيبُ من الثقافات، فهي مجتمعات ثيوقراطية ودول العصبيات القبلية والعشائرية، التي تخشى أن تُفقدها فسيفساء الأقليات سيطرتها التقليدية، ونظامها القبلي التقليدي الموروث!مضافا إلى
ما سبق فإن هناك سببا سيكلوجيا آخر يتمثل في الدول التي تضطهد الأقليات، فهي دولٌ مصابةٌ بهشاشة في التكوين النفسي بسبب القهر الناجم عن الديكتاتوريات فهي تُنفِّسُ عن ضائقتها  وكُربها، ومصائبها ومصاعبها، في أضعف الحلقات في المجتمع، وهي الأقليات.وحيث أنني أدرسُ الفسيفساء الإسرائيلية، والتي هي من أكثر الفسيفساء تناقضا، ليس في الأشكال والألوان والأعراق، بل وحتى في الموروثات والتقاليد، وفي اللغات، وحتى في الجينات، ويصل التناقض حدا يصعب جسرُهُ، غير أن الإسرائيليين نجحوا -حتى الآن- في تحويل هذا التناقض الفسيفسائي العرقي والديني والإثني واللغوي الفظيع، إلى  طاقات عاملة منتجة، واستخدموا سلاح الجيش لكي يقوم بمهمة أفران صهر الأجناس والأعراق، وتحويلها من حالتها الخامية إلى منتج إسرائيلي جديد، وظلوا حتى الآن يستعملون أقوى أسلحة الصهر وأشدها خطورة، وهي أن كل الفسيفساء المجتمعية الإسرائيلية المتناقضة مُعرضة للزوال، إذن فعليها أن تظلَّ  في حالة رعب مما يحيط بها من كل اتجاه، إذن فالخوف هو ناظم وحدتها!!حتى أن الكتاب الإسرائيليين يرون أن التناقض في المجتمع الإسرائيلي، لم يعد مجرد نزاع بين جنس وآخر ولون وآخر، ولغة وأخرى، بل إن (إله) الدين اليهودي الذي يجمع اليهود،ليس إلها واحدا بل إنه عدة أنواع من الآلهة، كما جاء في مقال يائير لابيد بمناسبة عيد الغفران اليهودي في يديعوت أحرونوت  27/9/2012، وهو أحد الإعلاميين البارزين في إسرائيل ورئيس أحدث الأحزاب الإسرائيلية( هناك مستقبل) فهو يصف الاختلافات قائلا:”إن لدى البشر ميلا لعمل أشياء باسم الله، حتى في إسرائيل لدينا عدة صور لله:إله الإشكازيم الحارديم، وإله الحاسيديم، وإله اللتوانيين، الذين يعتقدون بأن الحاسيديم ليسوا يهودا!إن إله لابسي الكيبا البيضاء، ليس هو إله لابسي الكيبا على طرف الرأس، وهناك إله للحاخامية العسكرية في السامرة  وهو بالتأكيد مختلف عن إله الآخرين وهو يجعلهم يدفنون الجنود اليهود الروس خارج مقبرة اليهود، وهناك إله آخر للحاخامية الإصلاحية وبخاصة لنسائهم الراغبات في الصلاة عند حائط المبكى، وهن ملفوفات بشال الصلاة، وهناك إله آخر للحارديم الذين يُلقون عليهن الحجارة وهن يصلين عند الحائط!هل أكمل؟هناك إله آخر يخص من يقبِّلون تعويذة المازوزاه، وإله آخر لمن يصلون فوق القبور، وهناك إله  مختلفٌ لأنصار الحركة التقليدية اليهودية، ممن يشاهدون الأفلام عقب صلاة الجنازة مباشرة، وهناك إله مختلف للنساء اليهوديات اللاتي يلبسن لبس النساء الطالبانيات، وإله للاعبي فريق كرة القدم بيتار القدس الذين سيهزمون إله مكابي مشجعي حيفا ، وهناك إله آخر لمن يرفضون قبول الطالبات في مدارس الحارديم لأنهن سفارديات.كل ذلك لأن الله أبلغهم؛ أن أفعالهم صحيحة.هذه هي طوائفنا، يختلف بعضها عن بعض، ومن الصعب عليك أن تعتقد بأنهم ينتمون لإله واحد، ولكتاب واحد، ولشريعة واحدة، فإن المشترك الوحيد بينهم هو ظنهم بأن اعتقادهم هو وحده الصحيح، وما عداهم فهو ضلال.والغريب أن كل هؤلاء يطلبون الغفران في يوم الغفران!!! والحقيقة هي:  لا يجب أن أسمح لك باستخدام (إلهك) لإنتاج العداء والعنف والعنصرية أو أن تستخدمني لتبرير شذوذك! إن أبسط مبادئ الغفران هو قبول الآخرين!!”انتهى مقال يائير لابيد، ولم تنتهِ قصةُ الفسيفساء العرقية والإثنية، والتي تعتبر في مجتمعاتٍ كثيرة رمزا للحريات والديمقراطيات، تعزز أركان المجتمع وتقوى روابطه الثقافية والتراثية، وتمنحه ألوانا جميلة منوَّعة، في حين تبقى الأوطان التي تُصرُّ على أن تتزاوج زواج أقاربٍ، فيكون الناتجُ دائما نسلا مقعدا مشوها مريضا!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى