المقالات

جرائم النظام السوري امام العدالة الدولية – بقلم : المحامي طارق شندب( محام بالاستئناف، خبير في القانون الدولي الجنائي )

مما لا شك فيه أن العدالة الدولية ما زالت تحصي عدد الشهداء في سوريا وعدد الجرحى والمهجرين والمفقودين دون أن تحرك ساكنا، وذلك لاعتبار أن المحكمة الجنائية الدولية الممثلة للعدالة الدولية الجنائية لم تتحرك بأجهزتها للمبادرة بالتحقيقات عن جرائم الإبادة ،والقتل الجماعي والتهجير القصري واستخدام الأسلحة الكيماوية وغيرها من الجرائم، للتحقيق أو المساءلة.

في ثورة ليبيا تحرك مجلس الامن باقطابه سريعا وتم إعطاء الصلاحية للمحكمة الجنائية الدولية وتم إصدار مذكرات توقيف دولية بشكل سريع بحق معمر القذافي ونجله وغيرهم، رغم أن الجرائم التي يرتكبها النظام السوري على مدار سنتين بحق الشعب السوري هي اشد فظاعة و هولا من تلك التي ارتكبها نظام القذافي بحق شعبه.

من هنا يطرح السؤال: هل العدالة الدولية هي عدالة مسيسة؟

وهل ما يرتكب من جرائم في سوريا يدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ؟

يأخذ الكثيرون على العدالة الدولية أنها عدالة انتقائية ، بمعنى أنها معايير الملاحقة والتحقيق والمحاكمة لا تطبق بالتساوي على جميع الأنظمة المجرمة؛وان الاعتبارات السياسية والتدخلات تمنع الملاحقة والتحقيق في بلدان دون أخرى لحسابات وارتباطات سياسية بين الدول .

لقد شكل قيام المحكمة الجنائية الدولية في العام ١٩٩٨ حلما لمنع الإفلات من العقاب لأي مجرم مهما كانت حصانته ومهما كان وضعه السياسي . لقد جاءت المحكمة الجنائية الدولية لاستكمال تطبيق المبدأ القانوني الدولي القاضي بمنع الإفلات من العقاب ومبدأ عدم حؤول الحصانات دون ملاحقة المجرمين. ولكن تحقيق هذا الحلم لم يكتمل لان المحكمة الجنائية الدولية ليس لها صلاحية على كافة الدول؛ كما أن حصر الملاحقة في بعض الحالات يستدعي صدور قرار من مجلس الامن الدولي، مما يعني أن تحريك أجهزة المحكمة الجنائية لملاحقة بعض المجرمين يستدعي قرارا سياسيا من مجلس الامن كما هو الحال الآن بالنسبة لسوريا.

بالرغم من أن مبدأ عدم الإفلات من العقاب وعدم وجود حصانات اضحيا مبدأين أساسيين يرتكز عليهم الفقه والاجتهاد الجنائي الدولي؛ إلا أن العقبات والمصالح السياسية تحول دون تطبيق هاتين القاعدتين الأساسيتان التي يرتكز عليها القانون الدولي الجنائي.

ان العدالة الدولية تدخلت لمعاقبة مجرمي الحرب في يوغسلافيا السابقة وأنشئت لذلك محكمة خاصة كما هو الحال في راوندا  وكمبوديا  وتيمور وغيرها من الدول وما تزال تلك المحاكم تعمل بالرغم من العقبات التي اعترتها . وأصدرت  تلك المحاكم بعض الأحكام بحق عدد من المجرمين من روؤساء دول ومسؤولين فيها؛ وما زالت تلاحق البعض. ولكن الأهم بالنسبة لعمل تلك المحاكم هو أنها وضعت حدا لحالات الإفلات من العقاب بالنسبة للروؤساء والمسؤولين الذين يتمتعون بحصانات سياسية فألقي القبض على العديد منهم وحوكموا بأحكام قاسية؛ ولكن الأهم من ذلك هو أن الكثيرين من روؤساء الدول والمسؤولين فيها في شتى دول العالم باتوا يدركون ان الهروب من المسؤولية الجنائية اصبح صعبا.

كذلك الأمر فان قيام المحكمة الخاصة بلبنان لمحاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري ورفاقه والتي هي محكمة جنائية دولية مختلطة ؛ هدفت إلى محاكمة هؤلاء القتلة ومنع الجريمة السياسية المستمرة في لبنان منذ تاريخ إنشاء دولة لبنان وحتى هذه اللحظة. وان كان هدف هذه المحكمة لم يتحقق حتى هذه اللحظة؛ بل يمكن القول ان جرائم القتل السياسية استمرت  وبصورة مضطردة؛ إلا ان تلك الجرائم المتتالية كانت تهدف إلى عرقلة قيام تلك المحكمة؛  إلا ان اعمال المحكمة كشفت أسماء متهمين و بدأت المحاكمات فيها تأخذ مجراها باتجاه كشف الحقائق ومحاكمة المتورطين . وسيكون لصدور تلك الأحكام وتطبيقها اثر مهم في مجرى العدالة الدولية وعلى الصعيد الوطني اللبناني  وعلى الصعيد الدولي لوقف جرائم الاغتيال السياسي، وليعرف المجرمين ان العدالة ستطالهم أينما كانوا.

أما بالنسبة لسوريا، فهي دولة غير موقعة على اتفاق روما؛ أي على اتفاق إنشاء المحكمة الجنائية الدولية والانضمام إليها؛ مما يعني نظريا انه لا صلاحية للمحكمة الجنائية الدولية للتدخل في الشأن السوري. ولكن نظام روما أعطى مجلس الامن الدولي صلاحية إحالة أي ملف يتعلق بدولة غير عضو فيه إلى المحكمة الجنائية الدولية إذا صدر قرار بذلك عن مجلس الامن الدولي وهو الأمر الذي لم يتم حتى هذه اللحظة باعتبار ان دول بعض دول الفيتو كروسيا والصين ستعارضان ذلك.

إلا ان نظام المحكمة الجنائية الدولية أعطى مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية صلاحية التحقيق عن جرائم تدخل في اختصاص المحكمة دون العودة إلى مجلس الامن عندما يتعلق الأمر بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وكلها جرائم ترتكب يوميا في سوريا على مرأى ومسمع مجلس الامن ومدعي عام المحكمة الجنائية الدولية. وهذ الأخير عليه ان يواكب الاجتهاد والفقه الجنائي الدولي الذي  يمنع الإفلات من العقاب لأي رئيس دولة أو مسؤول عندما يرتكب تلك الجرائم .

إلا انه في الطرح العملي، وإذا سلمنا جدلا بان المحكمة الجنائية الدولية لا تستطيع التحرك والتحقيق في الجرائم التي يرتكبها النظام السوري إلا بقرار سياسي من مجلس الامن؛ وهذا الأخير مكبل بالمصالح السياسية بين روسيا والصين والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا؛ إلا ان الدول الأعضاء في هيئة الامم المتحدة والذين يشكلون الجمعية العامة للأمم المتحدة يستطيعون في ظل الانقسام في مجلس الامن،ان يتخذوا قرارا بإحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية بدون العودة إلى مجلس الامن والطلب من مدعي عام المحكمة القيام بالتحقيقات اللازمة لإصدار أوامر الاعتقال والمذكرات بحق المجرمين.

كما ان نظام المحكمة أعطى هامشا من الحرية للمدعي عام المحكمة الجنائية للتحقيق بدون العودة إلى مجلس الامن.

ان الإجراءات التي بدأتها منظومة الامم المتحدة بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية وعدد غيرها من المحاكم الدولية الخاصة والمختلطة لمنع الإفلات من العقاب لأي مجرم مهما كانت حصانته ولوضع حد للجرائم الأشد خطورة لن تكتمل ، إلا بمعاقبة كل المجرمين من الرؤساء والمسؤولين وغيرهم الذين يرتكبون الجرائم وما زالوا بدون ملاحقة ، ويترتب على ذلك إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية أو إنشاء محكمة خاصة لمحاكمة مجرمي النظام السوري، وان كان خيار إحالة الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية هو الاولى نظرا لوجود تلك المحكمة و لإمكانية تحقق كافة شروط صلاحياتها في الملف السوري، ولصلاحية مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية بالتحرك عفوا.

ان العدالة الدولية لن تستقيم إلا بمحاكمة كل مجرم يتمتع بحصانة ويظن بانه بمنأى من الملاحقة، وهذا المبدأ في القانون الدولي الجنائي ، و هو العامود الاساسي الذي يرتكز عليه القانون والفقه والاجتهاد الجنائي الدولي .

ان مساع الدول العربية والدول الأوروبية وغيرهم من الدول  التي طللبت بإحالة ملف سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية  يجب ان يفعل لتأمين الأكثرية  من أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة لإصدار قرار بإعطاء الصلاحية للمحكمة الجنائية الدولية في ظل تقاعس مجلس الامن الدولي عن القيام بواجبه  و في ظل نأي مدعي عام المحكمة  الجنائية الدولية عن القيام بالتحقيقات المطلوبة منه بحكم موقعه القانوني.

بقلم : المحامي طارق شندب( محام بالاستئناف، خبير في القانون الدولي الجنائي )

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى