إجتماعيات

صليبا الدويهي فنان الضوء

إعداد الباحث روي عريجي – الحركة الإهدنية

بمناسبة مرور 28 سنة على وفاة الفنان الاهدني صليبا الدويهي والذي يصادف في 21 كانون الثاني 1994 تتذكر الحركة الإهدنية عظيم من عظمائنا بلمحة عن حياته مستقاة من تسجيلات قام بها الأستاذ بدر الحاج صديق الدويهي في الفترة الممتدة ما بين سنة 1982 – 1986 في الغرفة – الصومعة التي كان يسكنها على سطح الكنيسة المارونية في بروكلين، بالإضافة الى بعض الأبحاث الخاصة المتنوعة.
وفي هذه الذكرى نوجه طلبًا الى كل المعنيين في زغرتا الى تخليد ذكرى هذا الفنان عبر اقامة مقبرة تليق بالعظماء بالإضافة الى أرشفة أعماله والإضاءة على الأماكن التي ترعرع بها في زغرتا واهدن، مع الإشارة الى أن ما قامت به بلدية زغرتا سنة 2017 لفتة قيّمة وجميلة لما أطلقت سنة صليبا الدويهي والتي شملت العديد من النشاطات. كما يجب التذكير بالطابع البريدي الخاص بصليبا الدويهي الصادر سنة 2015. وبالكتاب الذي اعدّه الاباتي يوحنا صادر والصادر عن متحف التراث اللبناني ورابطة قنوبين.

صليبا الدويهي من مواليد زغرتا في 14 أيلول من سنة 1913، تعلم القراءة والكتابة في مدرسة تحت أشجار الجوز في مار بطرس- إهدن على يد المعلم بطرس الدويهي، ودرس قواعد الخط العربي على يد سليمان عيروت. ثم انتقل للدراسة في مدرسة الفرير في زغرتا لما كانت في مدرسة مار يوسف حيث كان يقوم بنسخ صور عن كتب “لافونتين” وغيره. كان صليبا يساعد والده بصنع أخشاب البنادق ويحفرها بطريقة فنية، وبرسم الزخارف والنقوش على الحديد.
بعد أن أنهى دروسه في مدرسة الفرير في زغرتا اقترح البعض إرساله إلى روما أو الفاتيكان لدراسة فن الرسم، لكن هذا القرار كان يعود آنذاك للبطريركية المارونية. وبناء عليه اقترح أحد الرهبان البدء أولاً بالدراسة على يد الفنان حبيب سرور الذي يقرر إذا كان من المستحسن الذهاب الى الخارج أم لا. لكن حبيب سرور أعجب برسوم الدويهي واقترح عليه أن يلتحق به في محترفه في منطقة الجميزة في بيروت لمزيد من التدرّب.
فتبنّاه حبيب سرور عدة سنوات وعلمه أصول الرسم مع رفضه تعليم الدويهي الاتجاهات الفنية الحديثة لعدم اقتناعه بها لا بل معارضته لها.
في سنة 1932 أوفدته الحكومة اللبنانية على نفقتها للدراسة في باريس. فالنتيجة الممتازة للامتحان الذي قدّمه في أكاديمية الفنون الجميلة العليا، أتاحت له الدخول الى تلك المدرسة حيث رسم فيها الانسان العاري. وبقي في باريس 4 سنوات ملأها بالبحث الفني وبزيارات المتاحف والمحترفات والتعرّف على فناني تلك الفترة ما ساعده على اكتساب مهارات جديدة. خلال تلك الفترة أنجز في باريس لوحات عديدة واشترك في معارض من بينها معرض الفنانين الفرنسيين “Salon des artistes français” حيث عرض لوحة بعنوان”La Vénus de Milo” وهي تمثل تمثال فينوس الموجود في متحف اللوفر.

وبقي صليبا الدويهي متمسكاً بالأصول الكلاسيكية البصرية التشكيلية إلى أن انتهت دراسته في باريس وعاد إلى لبنان سنة 1936.
وفي سنة 1937 شارك في معرض رسم في بيروت برعاية المفوض السامي الفرنسي.
في لبنان تركز نشاطه على استلهام الطبيعة اللبنانية. فقام بتصوير القرى والمنازل والأودية والأديرة والفلاحين التي حملت بصمات تلك المرحلة التي فيها الصدق أكثر من غيرها.
كما أنه أمضى ما يقارب الشهر بين معلولا، مكسه ودمشق، حيث رسم عشرات اللوحات. بعد ذلك ذهبت إلى بيروت وافتتح محترفاً في شارع محمد الحوت، وبدأت العمل على تصوير سقف كنيسة البطريركية السريانية المارونية في الديمان.

وازدادت ثقافة الدويهي الفنية الى حدّ وضع فلسفة فنية خاصة به ترتكز على أن الفن هو الخلق وليس تقليداً للطبيعة. فالطبيعة شيء والفن شيء آخر. فبدأت الصحف تتحدّث عن أعماله خاصة بعد إنجاز رسم كنيسة الديمان والمعرض الذي أقامه في فندق السان جورج سنة 1945. لكن الذي استفّز الدويهي وشجعّه على السفر أكثر هو انعدام النقد الفني العلمي في لبنان الذي يساعد الفنان بتوسيع آفاق فنه. واعتبر أن ما اصطلح على تسميته النقد في لبنان كان عبارة عن إطراء ومدح أو ذم.

وعلى الرغم من المهارات التي اكتسبها من الفنان حبيب سرور الذي سمح له، أي سرور، بمساعدته أحيانا في رسم لوحاته، والنجاح الذي حصده والمعارض التي أقامها، إلا أنه كان يشعر أن هناك نقصاً كبيراً في أعماله، أو ربما لأن الجو الثقافي المحلي السائد في لبنان لم يكن يتيح المجال لفتح الآفاق والتفتيش عن أساليب فنية جديدة لذلك قرر الهجرة إلى الولايات المتحدة سنة 1950 للتعمق في مدارس الفن الحديثة حيث اكتسب العديد من المهارات وبرع في تأديتها، من خلال العمل في محترفه ليلًا نهارًا، ومن خلال استماعه الى العديد من المحاضرات ودراسة الفنون العالمية القديمة والحديثة وقراءته للكتب الفنية في المكتبات العامة، فتعرّف على المدرسة التكعيبية، والسوريالية، والانطباعية… إلخ. وهكذا عبر تلك الدراسات تفهّم الحركة الفنية العالمية وبدأ بالعمل الجاد لإيجاد موقع له على الخريطة الفنية عبر عدم انتمائه إلى أي مدرسة. فأحبّ أن يكون فريدًا. فأنتج أعمال مستمدّة من الطبيعة اللبنانية أعطته هوية مشرقية.
وفي العودة إلى موضوع أعماله التجريدية، فلدى الدويهي ناحيتان في التجريد، الناحية الأولى مستندة إلى الخط العربي، والناحية الثانية لا علاقة لها بالخط العربي ويطلق عليها البعض الناحية الأمريكية، وهذا ما تجلّى عندما أقام معرضا فرديا في نيويورك عام 1966، حين أكدّ معظم النقاد أن صاحب اللوحات ليس أمريكيا، إنه متوسطي من حوض المتوسط. بالطبع هذا الموقف مبني على إدراكهم للألوان ونوعية الشكل، فالأمريكي يصور بأشكال وألوان أخرى.
وركّز صليبا الدويهي على الخطّ فبالنسبة إليهَ لم يرَ أجمل من الخط الكوفي الذي يستمد روحه من الخط السرياني. وكتب مرة عن أهمية الخط مقالاً طويلاً في مجلة “الشعلة” في بيروت دعا فيها الفنان العربي أن يتخذ الخط شعاراً لفنه وأسلوبه وعمله الدائم، لاعتباره إن حرفاً واحاً من الحروف العربية يمكن أن يصبح لوحة عظيمة في عالم الفن.

في سنة 1955 عاد إلى لبنان بعد أن كلفّه المغترب قبلان المكاري إنجاز رسوم كاتدرائية مار يوحنا المعمدان في زغرتا. وقبل البدء بالعمل قام بعدة أبحاث حول الفنون الشرقية والبيزنطية والمخطوطات السريانية المزينة بالرسوم والتي تعود إلى الجيل السادس، وعلى الأناجيل المحفوظة في مكتبات باريس، وفلورنسا، وعلى الفن الآشوري والفارسي والخط السرياني الاسترانغلو، وأخذ من مدرسة عين ورقة في غوسطا مقرًّا له للتحضير لهذا العمل.

بدأت شهرته تتوسع فطلبته العديد من ادارات المتاحف في عدة بلدان فأصبح سنة 1970 مستشارا للمتاحف الأميركية.
عندما بدأ صليبا الدويهي الرسم على الزجاج كان يعتبر أن الزجاج بحد ذاته أقوى من اللون الذي يضعه على القماش، فاللون بحد ذاته يشع منه النور بدرجات مختلفة حسب الضوء الخارجي المسلط عليه. لكنه لم يستخدم الطرق القديمة التي كانت سائدة في بلادنا والتي ارتبطت بحضاراتها، وذلك بلصق كسر الزجاج مع بعضه بالرصاص والحديد ما يجعل اللوحة عازلة للنور، فاعتمد الإيبوكسي المادة اللاصقة الشفافة وهي تقنية حديثة تعرّف عليها صليبا في أميركا والتي ساعدته لتكون لوحاته مصدر نور. وبعد اختبارات دامت ما يقارب ال 12 عاماً، بدأ باعتماد اسلوب الرسم على الزجاج ابتداءً من العام 1972 حيث نفذّ نوافذ كنيسة مار شربل في عنايا والتي للأسف دُمِّر قسم منها من قبل القوى المتصارعة خلال الحرب الأهلية، وأعمالا فنية أخرى في كنيسة سيدة لبنان بالقرب من بوسطن سنة 1978، لتصبح الكنيستان مكاناً للصلاة ومتحفاً وانعكاساً لحضارة وثقافة عمرها آلاف السنين.
ومن المراحل الفنية المهمة للدويهي هي معرض لوحاته التجريدية الحديثة في نورث كارولينا سنة 1978 والذي نظمه له مدير المتحف هناك الدكتور موسى ضومط ابن مزرعة التفاح.
وآخر معرض شارك به كان في باريس كان في اطار مرحلة الحروفية وذلك سنة 1993.
وفي 12 كانون الثاني 1994 توفي صليبا الدويهي في نيويورك، ونقل جثمانه الى زغرتا حيث سُجي في كاتدرائية مار يوحنا “متحفه” وأقيم له مأتم حاشد قلّده خلاله رئيس الجمهورية اللبنانية الياس الهراوي وسام الأرز الوطني من رتبة ضابط قبل أن يُدفن في مقابر مار بطرس وبولس في اهدن.

الصورة البانورامية من تصوير الفنان ألكسي فرنجية لكاتدرائية مار يوحنا المعمدان في زغرتا والتي طُبعت بمناسبة سنة صليبا الدويهي سنة 2017

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى