المقالات

مع إطلالة الفجر الأول من العام الجديد مشهد حزين تراه عينان لا عين واحدة

بقلم : الدكتور محمد علي ضناوي فجر أول يوم من العام الجديد 2011 ،رحتُ أستشرف الأيام القادمة، وما تحمله من احتمالات صعبةٍ ومُرّة في طول البلاد وعرضها، وأيام الدهر حُبلى لا ندري ما تلد. وأخذتُ أرقب تطوّر الأحداث، وما قد تؤول إليه الأمور. وسرعان ما حملني الترقُّب إلى ماضٍ خطير كُتب صفحاتٍ سوداءَ، العلقمُ أخفُّ مرارةً منها، فإذا بي أمام أمّ أمير غرناطة، الفارِّ منها عبد الله الصغير، حيث وقف على تلة تُشرف عليها وهو غير مُصدّق فقْدها، ومعه فَقَدها العرب والمسلمون، فراح يبكي بحرقة،  وقفتْ أمُّه فوق رأسه الباكي تقول له : (إبك مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال).
ورحتُ أسألُ نفسي أيّ ملك أضعناه؟ لقد أضعنا أنفسنا كما البلاد، وأضعنا مستقبل أجيالنا كما حاضرهم، وأضعنا تاريخاً كما موقعنا بين الأمم، حتى أن “ويكيليكس” تستهزئ بنا، بأنّ مئات من شخصيات الأمة ومسؤوليها هم مقاولون لدى سفارات الولايات المتحدة وغيرها، لنقل المعلومات وتلقّي التعليمات، دون أن ينسى صاحب الموقع “إنسانيته”، مشترطاً عدم إعدام هؤلاء الخونة!!!
*    *    *
بعيداً عن لبنان المتخبط بتردّدات أولى للمحكمة الدولية الخاصة به، والمتعلقة باستشهاد الرئيس الحريري ومن لَحِقَه من “شهداء”، حطَّ نظري على السودان، الذي هو على موعد مع الذبح والتقطيع في هذا العام الجديد، بعد أن أُعْلِن استقلاله بلداً ـ قارة أولَ عام 1955 ، وهو البلد الذي لم يُتْرَك لاستقلاله، بل أُشْهِدَ حروباً في الجنوب وفي دارفور وفي الغرب منه، وهي أيضاً حروب تُنبئ بمدى ضلوع أكثر من جهاز مخابرات دولة واحدة، لتحويل هذا البلد ـ القارة ـ إلى ما يشبه العروش الخاوية.ولتفريغ السلة الغذائية الممكنة للعالم العربي ، فلولا تلك الأصابع الخفية والظاهرة، ولولا سوء تدبير حكومات ما بعد الاستقلال، انتهاءً بحكومة الإنقاذ والبشير، لما هان السودان ولما تمزّق.
ولقد آلمني قول البشير الحاكم منذ أيام، وقبيل اختتام مسرحية الانفصال، وبعد أن تهيأ الناس في الداخل والخارج للقبول به، راح البشير يزفُّ البشرى لأبناء الشمال، أنه بعد الانفصال سيطبق الشريعة الإسلامية كاملة، فما كان الجنوب إلا حجر عثرة، وبعد انفصاله لا يبقى ثمة مانع يقف بوجه الشريعة الغرّاء، وهكذا استحال الحلم حقيقة وعُدْنا أحراراً من أجل الشريعة السمحاء، أو كما أراد أن يقول: إن الانفصال واجب، وهو ما تريده حكومة السودان لتتمكن من تطبيق الشريعة كاملة!! ذلك قول يلهو به العسكري الحاكم، لامتصاص غضب الشارع من النتيجة المرّة، التي آل إليها السودان أو سيؤول إليها، فلو كان الأمرُ أمرَ الشريعة، فلماذا كانت حرب دارفور المسلمة؟، ولماذا كانت حرب غرب السودان المسلم والحروب الأخرى، وكلها قامت لتحقيق الانفصال، واستنبات دول ضمن مخططات مشبوهة، وهي مخططات استفادت من تمرد الشعب، ومن غياب الـتنمية وضعف تمثيل الأقاليم، وسوء الحكم وهدر الثروات، واستمرار الإهمال. حتى لكأنَّ هذه المناطق السودانية ليست من سودان الخرطوم ؟  علماً أن الخرطوم نفسها تعيش عين الإهمال!!! الشريعة الغراء ليست،بحال من الأحوال، مسؤولة عن ذلك كله، بل المسؤول أولئك الرجال، الذين حكموا السودان عبر الأيام والأعوام.
أن ينفصل الجنوب،الذي كاد أن يكون خارج السودان منذ أن أعلن السودان المستقل، أمر خطير ومؤلم، لكن لا يصحُّ معه أنْ نبرّر ونقْلب الحقائق، فنقرر أننا فشلنا في تعريبه أو سودنته، أو حتى “تغيير” ألوان بشرة ناسه كما اللسان ومَجْمع الأفكار !! فالحكم خلال الخمس والخمسين سنة لم ينفِّذ أياً من الخطط في ذلك ولم يَكْتَرث لها. وتلك لعمري، مبررات إدانة لا تبرئة، وأدلة تجريم لا كف تعقبات، ومما نخافه أن يتحول السودان بمقولة الحكم بالشريعة على غير هدى، إلى مظلة يجري ضمنها استمرار اللعبة، في تفكيك سودان الشمال إلى “دول” بعد حروب داخلية بغيضة، مما يقضي على البلد وعلى التطبيق “الشرعي” بآن واحد.
لقد تمكنت الحكومات منذ عهد النميري “الإسلامي”(!!)، إلى الإنقاذ والبشير، من تحويل استخدام التطبيق “الشرعي” إلى مشجب يعلق عليه فشلُ النُّخَب الحاكمة.
ومع ذلك كله، نحاول أن نخدع النفس، ونتمنى الخير لسودان موحّد في الشمال، وعلاقات مميزة مع الجنوب المنفصل، وإنْ كان ما نخشاه هو أنْ “يعلن” السودانُ الجنوبي بؤرةً مشتعلة ضد العرب، نصرةً لإسرائيل، وبوابةً لتفجير مصر وسودان الشمال عبر وادي “النيل الجنوبي” ودول الحوض الأخرى، وتحفيزاً لأقباط مصر الوطنيين، وهي بداية لمؤامرة راحت تأخذ أبعادها الخطيرة في مصر المجهضة والمدجّنة.
*    *    *
ولا أدري، أهي مصادفة أن أكتب ما كتبت، بينما ينبئنا التلفاز بخبر عاجل عن انفجار آثم هزَّ إسكندرية مصر، في هجوم منكر ضد كنيسة قبطية، تتعمد الأصابع الخفية إياها الاستمرار في لعبة القتل التي تضرب العالمين العربي والإسلامي، من باكستان، امتداداً إلى إندونيسيا، التي شهدت منذ 2002 استنبات دولة تيمور الشرقية وانفصالها عن الأم الاندونيسية، ضمن خطة أمريكية ومباركة من أمميــتها المتحدة، وهي اللعبة نفسها الجاري تنفيذها في جنوب السودان، المتنقلة حالاً أو آجلاً إلى مصر العروبة… بحجة وجود افتئات على الأقباط، وهي حجة وضعتها المخابرات المشبوهة ضمن خطة متصهينة، لمعاقبة مصر التي خضع حكامها لمصير السلام الموهوم مع عدو إسرائيلي فاجر، فلاحقتها الصهيونية لمعاقبتها، بسبب تاريخها الجهادي الطويل ضد الوجود اليهودي في فلسطين المحتلة، فعمدت إلى قصِّ أذرعها لمنعها من العودة إلى أمجادها كأكبر دولة عربية، ولا يكون ذلك إلا بتفجير حرب “أهلية” في مصر بين القبط والمسلمين، وهؤلاء عاشوا زهاء خمسة عشر قرناً بوئام واستقرار وسلام، فإذا بالمخابرات الحقودة، تضع سيناريو تلك الحرب الآثمة، لتعيش مصر لاحقاً حصاراً في ماء نيلها الذهبي، انطلاقاً من دول المنبع، مروراً بدولة الجنوب المستحدثة، وحصاراً آخر هو حروب داخلية بدأت تذر قرنها مما استدعى  اقتناصها  فجاءت بوادرها الأولى في تدخل أوباما بعرض خدماته الجليلة، وبابا روما بطلب “حماية الأقباط”، في حين يتهالك نظام حكمها، فلا يرى إلا الحفاظ على عرش متهاو، يضيع فيه العباد والبلاد والحضارة والتاريخ.
ما يجري من تفجير الكنائس في العراق وفي مصر، خطوات،على ما يبدو، تأتي على إيقاعات سلسلة مؤامرات خطيرة ومشبوهة تنفذها أيدي جهلة منا، أضاعوا بوصلة الحق في الفتوى والفقه الصحيحين.
*    *    *
في أول العام أيضاً من سنة 1965 ، شهد إعلان فتح المقاومة الفلسطينية، بإطلاق أول رصاصة على جنود العدو الغاصب، فأعاد ذلك أمجاد الجهاد، لشعب فلسطيني سُلبت بلاده، وفُرِضَ عليه النزوح والشتات، وإلى أين؟ إلى أجزاء أخرى من بلاد أمته الوسيعة، إلا أنه حلّ “لاجئاً” فيها، فعُنّفَ وأجْهِضَ وضُيّقَ عليه، ولم يعامل المعاملة العربية الإسلامية المفترضة لطالبي الأمان، وإن كانوا من غير العرب، فكيف وهم منهم، وإليهم هُجّروا من ديارهم بغير حق، حتى أن حقوق الإنسان العالمية “جرّمت” حكومات “اللجوء”، ولكن لا حياء ولا حياة لمن تنادي.
اليوم، وبمناسبة الاحتفال السنوي لانطلاقة فتح، أكّد الرئيس محمود عباس، والذي سبق أن أعلن إنهاء المقاومة منذ استلامه السلطة، أنّ مشكلة الشعب الفلسطيني هي وجود سلاح غير شرعي مع منظمات وحركات و(ميليشيات)، وأنّ الحل يَكمن في أنْ لا سلاح إلا سلاح الشرعية، وهو السلاح الذي اشترطت عليه إسرائيل أن لا يوجَّه إلى صدور جنودها ومستوطنيها، تحت طائلة سحبه، وإعادة احتلال ما “منحته” من “أرضها” في (اليهودا و السامرة) إلى شعب “فلسطين” الأصيل…!! وكأنّ عباس بذلك يحاول محاكاة المأساة اللبنانية بفصولها القاسية، بعد أن أعجبه فيها حوارها العنيف والهادئ!!!
أما القضم والاستيطان، وأما زوال فلسطين 67 ، وتحويلها إلى جزر بشرية لا تواصل فيها، وأما القدس وأقصاها وكنيسة قيامتها، أما الوعود ” المعسولة” وغير المعسولة، أما حصار غزة وحصار الضفة إلا ما يسمح به العدو، أما تهويد فلسطين 48 والقدس الشريفة، وابتلاع الأراضي المعترف “بفلسطينيتها” ،أما اللاجئون، أما حق العودة ،أما قرار 194 الذي قسم فلسطين بين ميليشيا الهاغانا وبين الفلسطينيين، الذين حاربوا بجيوش عربية كاذبة، أتت لتغطي انتصارات العصابات اليهودية، وتتولى تسليم الأرض والعرض، أما هذا كله فليذهب إلى زوايا التاريخ، طالما أن السلطة في الضفة ممسوكة، ولا تراجع لها إلا أمام العدو، وليس من مشكلة أن تتحول، في النهاية، إلى شاهد غير مكرّم  بتوقيع مذلٍّ يقرُّ بانفصال جديد للأرض، وإعلان نهاية القضية الفلسطينية العادلة!!!
*    *    *
ويبدو أنّ الرئيس الفلسطيني في أول العام الجديد يصرُّ أن يضع جميع بيضه في سلة أيلول القادم، فأوباما وعد وكذلك الرباعية أن الدولة الفلسطينية سيكون لها مقعد في (جنة) الأمم المتحدة وما نخشاه أن نستفيق على أيلولٍ أسود، يتكسر فيه البيض وتضيع الأرض والعرض!!!
أما العراق الجريح، حيث أُحبكَ فيه حلّ التوافق الأمريكي الإيراني، والذي بموجبه يسير العراق خطوات إلى غير هويته التاريخية، ويمضي قدماً في تشرذم خطير، قد ينتهي بدويلات تكون أولها الدولة الكردية الموعود بها أمريكياً، يتبعها إعلان دويلات هنا وهناك أو سوى ذلك… مما لا يكون من نسيج الأمة وحضارتها.
أما اليمن، وما فيه من حروب لاستعادة “الجنوب” أيضاً دولته، ولتكريس سيطرة الحوثيين وجعلهم في معادلة حكم اليمن حمايةً لرغبتهم المشبوهة بالتمدد إلى السعودية، ولملاقاة آخرين في البحرين والساحل الشرقي، و”لحروب” الاضطراب والفوضى ضمن (القاعدة)، أما اليمن هذا فيواجه، كمصر، حكماً يلهث وراء (دَسْتَرة) ولاية رئيسه ومبايعته حتى موته، وربما موت أبنائه وحفدته.
*    *    *
وأما الصومال المقسَّم، فإلى مزيد من الدماء والقهر  في حروب الداخل، وإلى تنشيط القرصنة البحرية تمهيداً لإحكام القبضة الدولية في ساحله الطويل على الشرق الإفريقي المواجه للسعودية واليمن.
أمّا نيجيريا وساحل العاج، فإلى مزيد من الحروب والتقاتل، وربما التفاصل والانفصال. وأما الصحراء المغربية وما سيجري فيها فإلى مزيد من التعقيد، وأما الجزائر، وما يمكن أن يتجدد فيها من طلب استنبات دولة البربر، وأما تونس الخضراء المدماة بقوة قبضة الحاكم.
وأما ما يمكن أن يجري في باكستان على خلفية ما يجري في أفغانستان من حروب ومجازر داخلية.
ومن أجل إضعاف دولة (النووي الإسلامي)!!! لا بد من إقامة حروب مصطنعة سنية شيعية …
كل ذلك وسواه يكاد يكون مفهوماً، ضمن مسودة الخرائط المعدة لشرق أوسط كبير جديد، أو ما يسمى بالعالم الإسلامي الطائر المهيض الجناح، المسلوخ في جلده وريشه!!! وها هم الجزارون يهمّون بتقطيع أطرافه الكثيرة الباقية، بعد أن نزعوا قلبه في فلسطين وقدسها الشريف.
*    *    *
أما لبنان وما أدراك ما لبنان، البلد الذي كاد أن يصل إلى التعايش والوحدة الوطنية، والذي ما لبث أن تراجع عن هذا الخلق الرفيع، بعد أن شهد حروباً أهلية فئوية وطائفية مذهبية والذي لا يزال في قلب المؤامرة، لكن عليه أن يختار هوية الغد، بينما هو فاقد قدرة الاختيار،  فاقد هوية الحاضر، ومنسلخ عن ماضيه القريب والبعيد.
ونتساءل، هل أنَّ عدوى استنبات الدول في الشرق الأوسط الكبير ستصل إلى لبنان، ضمن مناخات متشابهة؟ أم أنَّ حروبه السابقة والمحتملة قوَّت المناعة لديه، فأصبح خارج العدوى على أن تتغير معالم النظام والحكم وفق طلب الطالبين!!
ترى هل المحكمة الدولية حل أم مشكلة؟ وسلاح المقاومة اللبنانية حل أم مشكلة؟ وأيهما شرعي وأيهما غير شرعي؟ وما هي الشرعية هنا؟ هل الاستسلام للقوة أو للضعف ،للعدو أو للصديق، أو لاستمرار التفاعل في حوار الطرشان؟
*    *    *
بمرارة نتساءل، هل صورتنا الحالية في عالمنا وأمتنا جزء من المشهد الحزين، في مؤامرة الشرق الأوسط الكبير الذي فبركه كيسنجر، قبل ومع حرب السنتين في لبنان بين عامي 75 و76 من القرن الماضي؟ وهل لا يزال المشهد ساري المفعول مع تأصيل وتمكين؟ وهي خطة سيئ الذكر كيسنجر، من أنّ حروب الشرق الأوسط الواجبة هي الحروب التي ستجعل إسرائيل (مرتاحة) وسط تقاتل أفرقاء هذا الشرق المنكوب!!
ترى أما كانت أمّ عبد الله تتحدث عن حاضر ابنها الأمير عبد الله الصغير آخر أمير على غرناطة وعلى مستقبل أولاده على مر الزمان في طول وعرض أمة العرب والإسلام؟
تلك أمٌّ نهتنا عن البكاء ونهرتنا عن الاستمرار فيه، حتى تبقى عندنا عينان تريان لا عين واحدة، فقد تكون عوراء أو عمياء.
ترى هل الأمر كذلك أم على قلوب أقفالها، وإنْ بقيت عينانا سليمتين؟
تلك هي المسألة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى