المقالات

عاصم سلام: القادم إلى الفن المعماري من السوسيولوجيا – بقلم المهندس ميشال عقل

أعرفه منذ سبع عشرة سنة وقد اصطحبني إليه المعماري الصديق سلامة حشيمه للعمل معه في معركته الانتخابية لنقابة المهندسين في بيروت خريف 1995. كنت قد قرأت له وعنه أشياء تتعلّق بالعمارة وإعادة بناء الوسط التجاري لبيروت وسواهما، وأحببت آراءه ومنظوراته الجمالية والانمائية وخياراته المعمارية. لكني لا أغالي إذا قلت إني كنت حذراً في الدخول الى منزل «البيك» المتحدّر من سلالة آل سلام العريقة المعروفة. كنت حذراً لأني أصلاً لا أنسجم مع البكاوات وأصحاب الالقاب وما اليها … لكن سُرعان ما انتهت لحظات الحذرمن أول لقاء. فأنت فعلاً أمام «بيك» من نوعٍ آخر خصوصاً من حيث السلوكيات والتصرفات وطريقة العيش والنقاش والحوار والجو المريح الذي يُدخلك إليه… وهذا ما أحببته وقدرته فيه كثيراً .
لقد اكتشفت فيه منذ البدايات شفافيّةً متناهية ومقاربةً لا تعرف الدبلوماسية، وصلابةً في الرأي والموقف وجُرأةً في القول والمواجهة ومناقبيةً تتميّز بالصدق والتمسك بالقيم الأخلاقية والمهنيّة والوطنيّة.
عاصم سلام، الخارج من عبء الإرث والطبقة، انحاز باكراً الى الخيارات الوطنية والعربية مُعلياً دوما ًمصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، مؤيداً ومدافعاً عن الملك العام والحق العام، مختاراً طريق الإصلاح والتغيير عبر العلم والحوار والنقاش والتواصل.
لديه خيارات معمارية وتنظيمية تجلت في إنجازاته الغنيّة، في ما عمَّره من أبنية خاصة وحكومية نموذجية في لبنان والبلاد العربية، وفي ما علَّمه لطلابه الآلاف الذين أحبوه وتأثروا به، ومنهم الكثير ممن يسيرون على دربه الآن ويغرفون من تراثه. إنه داعية ومناضل، في كل ما للكلمة من معنى، للحفاظ على التراث والتاريخ والذاكرة خلال كل المؤسسات والمراكز والمواقع والمناصب التي شغلها، أستاذاً محاضراً ومستشارا ًحكومياً ومهندساً مصمماً ونقيباً. ويقول في هذا الصدد “إن الذاكرة هي الإنسان، وبالذاكرة نبني المستقبل”.

عاصم سلام والتراث المعماري

بالنسبة الى عاصم سلام يُشكل التراث أولوية مطلقة، ليس فقط عند البحث في قضايا وشروط التنظيم والتخطيط والإعمار، إنّما قبل وفوق كل ذلك ومن دونها، لأن التراث بكل عناصر هو أبعاده حاجة ثقافية إجتماعية للتواصل بين الأجيال، ومن دونه «تُضيِّع الشعوب جوهرها وثقافتها وبالتالي قواعد بناء مستقبلها». كان يتألم كثيراً ويصرخ ويناضل ويتظاهر ويُحرك المهندسين وجمعيات المجتمع المدني عندما تتعرض معالم التراث، خصوصـاً منه المجال المبني في بيروت وسواها، لأي عملية سطو أو هدم تحتأية حجة. وقد كتب في مؤلف «تراثنا الوطنيّ كيف نحافظ عليه»، الصادر عن المؤسسة الوطنيّة للتراث في كانون الثاني 1997، والمتضمن وثائق الندوة العالمية حول المحافظة على التراث الوطني وترشيد إدارته» «استمرار هدم التراث لصالح المستثمرين والمشاريع الكبرى في بيروت إنما يشكل هدماً للنسيج الاجتماعي والبيئة الحضارية وذاكرة البلد التراثية». وهو يعي أيضاً أن التراث ثروة مادية تشكل موارد أساسية، خصوصاً لبلد مثل لبنان، غني بطبيعته ومجاله المبني وشواطئه وسواها، ولا يرى تناقضاً بين الوجهين.
عاصم سلام يُحمِّل مسؤولية هدم الذاكرة والعبث بها للسياسة وللطبقة السياسية التي تحكم لبنان منذ الاستقلال. هو يستثني منها فقط الرئيس فؤاد شهاب وتجربته التي عملت بجديّة على بناء المؤسسات للتصميم وتنظيم المجال، بما يحفظ تراثه وطبيعته تأسيساً على خطة شاملة للتنمية واستعمال الأراضي على كامل التراب الوطني. لذلك عاصم سلام مُنحاز الى التجربة الشهابية ومؤسساتها، ويطالب بعودة وزارة التصميم، أُم الوزارات، لتكون الناظمة للإنماء المستديم والمتوازن التي يأتي من رحمها ترتيب استعمال الأراضي والبناء. هو يرى وجوب إيجاد وزارة التصميم من جهة، وكذلك ربط التنظيم المدني بالخطة الشاملة من جهة أخرى، فلا يبقى عمل التنظيم المدني على جزر مستقلة، بل وفق الخطة الإنمائية الشاملة. مهمة التنظيم المدني عنده كبيرة وعليه ترسو عمليات ترتيب ودراسة وتصنيف الأراضي بتمامها. ولا يجوز، بعد نحو أربعين سنة من إنشائه، أن يقصر ولا ينجز سوى 25% من تصنيف الأراضي في لبنان. عاصم سلام لا يُحمِّل النصوص والقوانين وإدارة التنظيم المدني وحدها المسؤولية، فهو يعتبرها في كتاباته وتوجهاته مقبولةً ومسؤوليتها النسبية واضحة. إنما يرى أن السياسة والتدخل في الإدارة يُفسد ويعيق عمل التنظيم المدني بل يدمّره أحياناً كثيرة.
في هذا المجال قام عاصم سلام بتنظيم عشرات المؤتمرات عن التراث وترشيده، والتنظيم المدني ودوره من على منصة نقابة المهندسين وفي مختلف المواقع في لبنان العالم، حيث هو عضو أو رئيس لأكثر من هيئة ناشطة من “الأبساد” (APSAD) لبنان، الى اللجنة اللبنانية للحفاظ على مدينة البندقية في إيطاليا، الى عضوية لجنة متحف سرسق، الى رئاسة هيئة المعماريين العرب، حيث قام هنا بجهود جبارة خلال مشروعات عدة هدفت الى ردع المشاريع الصهيونية الرامية الى تهويد القدس وإزالة معالمها التاريخية العربية، كان أبرزها مؤتمر «القدس الآن – المدينة والناس تحديات مستمرة» الذي عقد في بيروت سنة 1999.

عاصم سلام والحداثة في العمارة

عاصم سلام أحد رواد الحقبة الحلوة من تاريخ العمارة في لبنان، الى جانب أترابه بيار خوري وجاك ليجه بلير وراوول فرني وخليل خوري وجورج الريّس وغريغوار سيروف وريمون غصن ورهيف فيّاض وسمير خيرالله وسواهم الذين أنجزوا وأسسوا لعمارة متصالحة مع المكان ومتطلعة الى المستقبل.
عاصم سلام، رائد في الابتكار، من الموجود والتقليد والمكان والتراث والتاريخ، باتجاه حداثة معقلنة ومن دون نوستلجيا واستنقاع في الماضي والموروث، ومندون مبالغة في استعراض وعرض التقنيات الحديثة. إنه بالفعل منظم التناغم بين مقومات وعناصر الموجود والتاريخ ومقتضيات العصر وتقنياته الحديثة.
يقول فيه المهندس الباحث إيلي حدّاد في مقالته «الحداثة ومسألة الهوية» المنشورة في مجلة “المهندس” العدد 27 تموز 2011: “هو من روّاد البحث عن القاسم المشترك بين العمارة الحداثية وخصوصية المكان وهويته العربية بنحو خاص، ومن أعماله جامع الخاشقجي 1973 في بيروت الذي ارتكز على مخطط النجمة المربعة ذات الزوايا الثمانية فيما حافظ على تفصيل القطع المعمارية من الحائط الحجري الرملي والهيكل الباطوني الى السقف. وبالرغم منكون هذا البناء حداثياً بامتياز، إلاَّ أنه أيضاَ مطبوع ببعض المزايا الخاصة التيتؤسس لقراءة معاصرة للتراث الاسلامي دون الإنجرار وراء التقليد ونسج الاشكال القديمة”.
إنه من دون شك من أبرز المشتغلين على رموز ولغة ومفردات العمارة الشرقية لأنه ابن الشرق من بيروت الى بغداد والشام وعمّان مروراً بفلسطين. احترامه الكبير ومحبته للأمكنة والمواد المستخرجة منها كالحجر والتراب والخشب والقرميد دفعاه الى استعمالها الدائم في مشروعاته كلها، ومبنى وزارة السياحة في بيروت خير مثال على تلازم الأشكال والطراز الشرقي والمواد القديمة من جهة مع شفافية الزجاج الذي يغلف به عمارته من جهة أخرى.
حداثته تأتي من هذا التخصيب الواعي بالعلم ولأنه يؤمن بهذا الجدل الدائم الحار المنتج والمحيي بين الموجود والحديث. هذه الفلسفة في العمارة لا تأتي عنده من علم العمارة وآدابها بل تنبع من اعتباره المعمار ابن المجتمع والمكان والزمان والعصر. ابن التواصل والبيئة… هو من “السوسيولوجيا يأتي وليس من الأيديولوجيا”.

عاصم سلام والمصلحة العامة
والموقف من إعادة إعمار وسط بيروت

لم يكن عاصم سلام مِعماراً ومصمماً في القطاع الخاص وأستاذاً جامعياً يُدرس العمارة في الجامعة الأميركية في بيروت فحسب، إنما كان أيضاً عضواً فاعلاً ومستشاراً نشطاً في أكثر من مجلس إدارة للعديد من المؤسسات الحكومية المولجة بشؤون التصميم والإنماء والإعمار للقطاع العام. هذه التجربة التي امتدت سنوات من 1962 الى 1994 أكسبته معرفةً كاملةً بمشكلات التنظيم المدني والتجهيز والإسكان وبمعوقات وإشكالات الإنماء الشامل المتوازن والمتكامل. وقد عزز تجربته العملية هذه بمجموعة من الأبحاث والمقالات، منها ما قام بها منفرداً ومنها ما قام بها بالمشاركة مع آخرين أمثال جاد تابت ونبيل بيهم وسواهما، وقد صدرت في مؤلفات أذكر منها كتابي «إعمار بيروت والفرصة الضائعة سنة 1992» و«الإعمار والمصلحة العامة سنة 1995». كل ذلك وفَّر له منظومة كاملة من الرؤى والتوجهات العلمية السليمة والخبرات التي تحكم عادةً مخططات وعمليات الإنماء والإعمار، خصوصا ًللمدن المهدمة بالحرب. لكن الرياح في تلك المرحلة من عمر لبنان لم توفّر له المناخات التي تجعل لخبرته ورُآه دوراً ومساحةً في مسألة التخطيط لإعادة إعمار وسط بيروت التجاري المهدم بالحرب. فسرعان ما عارض الدراسات التنظيمية والتوجهات والمخططات العامّة وحتى التفصيلية التي وُضعت لإعادة إعمار وسط بيروت التجاري. وكانت معارضته العلمية المبدئية الموضوعية تقوم على مسلمات لم يراعها المخطط أبرزها:
1- التعدي على الحق العام والملك العام لصالح الخاص وتغليب الثاني على الأول.
2- وجوب إخضاع هذه الدراسات كما الدراسات كلها الى الحوار والنقاش العلني داخل المؤسسات وفي الرأي العام وعرض المشروع على الجمهور قبل إقراره مطالباً بذلك بأوسع مشاركة ديموقراطية.
3- عارض إيلاء شركة خاصة مسؤولية الإعمار والتفويض لها بصلاحيات واسعة تصل الى حدود المسّ بالحقوق وحق التملك والاستملاك والردم وإنشاء البنى التحتيّة وما إليها.
4- وعارض شمولية الهدم وجرف الأسواق القديمة بكاملها التي كان لا يزال بعض معالمها قائماً ويمكن إنقاذه. ليس فقط من أجل التراث والتاريخ والذاكرة إنما خصوصاً لأن أسواق بيروت وقلبها شكلت على الدوام مكاناً للشعب والتلاقي والتواصل بين اللبنانيين والذاكرة الجمعية لعموم اللبنانيين.
5- طالب بربط وسط العاصمة بأحيائها الأخرى حتى تكون القلب الذي تصب فيه ومنه سائر شرايين العاصمة والوطن.
6- طالب بالمحافظة على بقاء السكن في وسط بيروت حيث أمكن حتى لا تكون بيروت مدينة فقط للأعمال، بل تبقى لأهلها الأصليين، حفاظاً على الذاكرة والهوية والنسيج السكاني، تمثلاً بما قامت به مدن كثيرة في أوروبا بعد الحرب مثل باريس وبرلين…، حيث تمت المحافظة على القديم الموروث والسكن والأسواق الشعبية وما إليها.
وبهذا الصدد كتب الى صديقه المهندس هنري إدّه المستقيل من رئاسة الفريق المهني المسؤول عن المخطط التوجيهي لوسط بيروت قائلاً له: “كنت أيضاً ضمانةً لنا في إمكانية تكييف المشروع في المستقبل وأثناء التنفيذ… وضمانة أيضاً لنا بأن لا يُبنى لبنان إلاَّ بأبنائه المخلصين”.
اليوم بعد انتهاء إعمار وسط بيروت ينبغي الإقرار بموضوعية وتجرد، أن الملاحظات الجوهرية التي قدمها عاصم سلام ورفاقه خلال مرحلة الإعمار وقبله والتي بسببها استقال هنري إدّه، كان من شأنها لو أُخذ بها أو ببعضها، أن تُجوِّد الإنجاز، وتصون الحقوق الخاصة والعامّة، وتحفظ لبيروت وظائفها كعاصمة وأوجهها المتعددة الجميلة. فبيروت التي كانت عبر التاريخ مُلتقى الأوساط والطبقات والفئات كلها غدت الى حدِّ كبير مدينة الأغنياء والسياح. وبالرغم من اعترافنا جميعاً بأن إعادة الإعمار كما تمّت هي على درجة عالية من التقنيّة والجمال والترتيب والتنظيم، وأن بيروت استعادت قسماً من دورها التجاري والسياسي والسياحي والثقافي، لكنها لم تستعد كل تاريخها وذاكرتها كقلب وكعاصمة لكل اللبنانيين.

النقيب والنقابة

في نقابة المهندسين قام النقيب عاصم سلام 1995-1999 بإصلاحات بنيوية بعد أن كانت النقابة قد لمّت شملها إثر انتهاء الحرب سنة 1990. فذهب حالاً الى إصلاحات جذرية انطلقت من حوار علمي رصين داخل مجلس النقابة وفي أروقتها أفضى إلى تعديل جوهري على قانون مزاولة مهنة الهندسة الرقم 636 سنة 1997. هذا التعديل البنيوي أطلق أجواءً ومرحلة جديدة، ولا أبالغ إذا قلت نقابة جديدة ومتجددة قادرة على التحوّل نحو المستقبل. هذا القانون دفع باتجاه إخراج المهندس من دائرة العمل على رخص البناء التي طبعت مراحل سابقة من عمر النقابة الى رحاب الأداء الفني المهني والتخصص والممارسة العلميّة السليمة. فالتفريع الجديد الذي أُرسي على قاعدة الاختصاص والممارسة الفعليّة أحدث نقلة نوعيّة في أداء المهندس والنقابة، انعكست إيجاباً على مهنة المهندس وإنتاجه وأتعابه ودوره ومسؤوليته وموقعه وكذلك على صورته. ثمّة تحوّل جرى في صورة المهندس من مُشتغل بالبناء على قاعدة التراخيص والمعاملات الى رحاب العلم والإبداع والمسؤولية العلميّة. وبدلاً من أن يكون المهندس عبئاً مفروضاً بالقانون والنظام أمسى إلى حدّ مقبول حاجة لدى المُعمِّر والمستثمر وأصحاب المشاريع وسواها. أما الإصلاح الآخر الذي قضى بانشاء هيئة المندوبين بدلاً من الهيئة العامة، فقد أتى مكملاً للأول، مُحسناً صورة التمثيل وعدالته، ومُشركاً كل مكونات النقابة وفروعها وأجيالها واختصاصاتها في صياغة قراراتها.
على مستوى آخر ساهم عاصم سلام في التسعينيات من القرن الماضي من خلال تأسيسه مع مجموعة من المعماريين المُجلّين لحركة «الخيار المهني» في توضيح وبلورة مهنة ودور المعماري، ما وضع حداً للالتباس التاريخي بين المعماري من جهة وسواه من المهندسين، خصوصاً المدنيين الإنشائيين من جهة أخرى. هذا التجمّع دفع الى دور نقابي نوعي ريادي خلال تحريك الموضوعات المتصلة بالعمارة وفي تطوير النقابة باتجاه التخصص.
الإصلاحات البنيوية هذه التي تركزت على الحوار بين مكونات ومهن الهندسة على قاعدة احترام الخصوصية والتخصص، أدت الى وقف مقولات صراعية كانت قد شقت طريقها الى النقابة عبر إشكالية «النقابة النقابية» أو «النقابة المهنية» التي عرّضت النقابة لمخاطر الانقسام. الإصلاحات الجوهرية هذه، مكنت الأطروحتين «النقابية» و«المهنية» من الإلتقاء، بل والتكامل، في «نقابة نقابية مهنيّة» قادرة على القيام بالأعباء المهنية ومستلزماتها العلمية والفنية من جهة، وعلى قاعدة النقابة التعاضدية الحامية لحقوق المهندسين خلال التعاضد والتقديمات الاجتماعية ومن جهة أخرى.
أما بشأن السياسة والأحزاب والنقابة فإن لعاصم سلام موقفاً حاداً بهذا الشأن دعا فيه الى إبعاد السياسة عن النقابة والمهنة. حتى إنه ذهب بعيداً في رفض الأحزاب وأدائها وتدخلها في الشأن النقابي. ودفع خلال حقبة غير قصيرة من ولايته باتجاه إخراج الحالة الحزبية من النقابة. لكنه سرعان ما اكتشف مع محبيه ومريديه الكثر حزبيين وغير حزبيين في «الخيار المهني» و«تيار التجيد النقابي» وسواها من التجمعات المهنية الناشطة، أنه فضلاً عن الاستحالة في متابعة هذا التوجه، ثمّة قناعة فرضت ذاتها انطلقت من اعتبار أن «النقابة ليست جزيرة». فانتقل موقفه من مقاوم لتدخل الأحزاب الى مرحلة الموأمة بين «السياسي» و«النقابي» وعلى قاعدة استمرار ايمانه وعمله بأولوية العمل النقابي على الحزبي… وبأن النقابة مؤسسة مهنية علمية حرّة لها خصوصيتها المميزة ويجب أن تبقى متمتعة باستقلالها وقرارها الحرّ. ودعا الأحزاب أن تحترم وتصون هذه الذاتية النقابية. من هنا عمل ولا يزال يعمل على قاعدة أولوية “الأطروحة المهنيّة النقابيّة” التي ينبغي أن تتلازم مع الأطروحة الوطنيّة، وعلى أنتبقى النقابة دوماً خارج الصراعات السياسية الحزبية والطائفيّة.
من هنا ينظر الى أهمية المكونات المهنية والروابط العلمّية والمؤتمرات النقابية والمهنية وسواها ودورها في توفير بيئة خارج الحزبية والتحزب ترفع من مناعة وقدرة النقابة على الإمساك بديناميات التطور الذاتي المهني العلمي والديموقراطي، خدمةً لأعضائها وصيانةً لمصالحهم وحقوقهم وتطوير مهنتهم وتعزيزاً لدور النقابة الإجتماعي الإنمائيّ الوطنيّ بعيداً عن السياسة بمعناها الضيق.
عاصم سلام في نقابة المهندسين كنقيب، وفي «الخيار المهني» كمرشد أعلى، وفي «تيار التجديد النقابي الهندسي» كصديق وشريك، أرسى لنهضة نقابية مهنيّة وثقافيّة لا تزال تتفاعل بها أروقة نقابة المهندسين حتى الساعة. إنها إنجازات نوعيّة وعلامات فارقة لن تزول، وستثبت الأيّام بأنها باقية متمددة مستمرّة ومتفاعلة، إذا توفرت لها شروط المتابعة والتطوير. إنها ديناميات وَجدت دوافعها في مخاض الواقع فاستأهلت حلولها بعيدة المدى والأثر، وقد وقعت في أرض خصبة وتربة صالحة تلقفتها أخلاقية عالية وشفافية راقية ووجدانية رفيعة لرجل صاحب التزام ورؤية وتصميم كعاصم سلام.
درج المعمِّرون من كبار الأدباء والمفكرين والمبدعين على الانطواء والاهتمام بالأرشيف والتاريخ والأوراق العتيقة والذاكرة وكتابة المذكرات، كأنهم يعدون حقائب «السفر». منهم قلّةٌ قليلة لا يزالون يعيشون في الراهن ويناضلون ويكتبون المستقبل ويحاولون الإجابة على أسئلته الصعبة والمعقدة. منبين هذه القلة يأتي في الطليعة عاصم سلام الذي يعمل وينتج ويحاور ويناضل ويدرس ويشتغل في بناء ذاكرة الغد. إنه بالفعل مسيرة وطاقة جبارة ومرجع نحجُّ إليه كي لا نضلّ السبيل وكي لا نتعثر فنقع في متاهات هذا الزمن الرديء.
عاصم سلام مدرسة مستمرّة لا تعرف الوهن، علمٌ كبير ومُعلِّم رائد لي ولسواي وللأجيال المقبلة. إنه أحد أبرز رواد نهضة العمارة والتنظيم في لبنان والعالم العربي. أمدَّ الله بعمره. عاصم سلام وأمثاله يبعثون فينا الأمل والرجاء بأن الإصلاح في لبنان والعالم العربي وإن كان يبدو صعباً أحياناً لكنه ليس مستحيلاَ
(جرية السفير – 10/03/2012)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى