المقالات

الدوامة اللبنانية كتب:د. قصي الحسين

عادت الأمواج البحرية كما الموجات النهرية، تتخذ شكل الدوامة. لا مناص أن يكون لبنان بالوعة الأزمات المحلية والخارجية، ما دام يعيش على الريع. ما دام يأكل ويشرب من الريع. ما دامت سلطته من فائض القوة. ما دامت سلطته بل سلطاته لا تمثل قوة السلطة.
فجأة ظهرت الدوامة في المجرى. تمتص غضب الموج في المجرى. كان لا بد للأمواج الهادرة في غلاف لبنان، وفي المنطقة المحاذية لغلاف لبنان، وفي البلاد البعيدة عن لبنان، أن تجد لنفسها دوامة، تستريح فيها، وتسرح منها، وتنسرب، بأقل الأضرار الممكنة.
لبنان يوفر هذة الدوامة حقا، للإقليم كما لخارج الإقليم. ولا خوف مما يحدث، ومما لم يحدث بعد، أن يؤدي ذلك، إلى كوارث تلاطم الأنهار وتلاطم المحيطات وتلاطم البحار.
لبنان متعهد الدوامات الدائمة، لأزمات الإقليم، ولأزمات رعاة الإقليم. فلا ييأس من دوره، ولا ينشق عنه، مهما علا الموج حوله.
أمس، تكاثرت الأمواج عليه. من جنوبه. ومن شماله. ومن بقاعه. ومن وسطه. غير أنه إستطاع أن يمتص، كل الثوران، وكل التوهان الذي إنصب على رأسه دفعة واحدة.
لو لم يكن لبنان في وسط الإقليم دوامة له، لتلاطمت الأمم ببعضها. لشمرت الحرب عن ساقها.
لبنان دوامة طبيعية للمنطقة، منذ عهده الأول حتى الآن. فلا ييأس الناس من دوره، مطفأة الأزمات، حتى في أقسى وأصعب الأوقات.
أمس، كان لبنان على المحك. أخذ دوره بكل توازن. وأعاد التوازن إلى المنطقة. سال عليه الموج، حتى خشي العالم عليه، من الغرق في بحر من الدماء. لكنه إستعاد نهوضه فجأة، وبهر العالم، في حسن إدارة التلاطم و الإنقسام.
كانت الأمواج تنسرب إلى زيازاته بكل هدوء، قبل هبوط المساء. وكان الصخب والهدير يذهب في الدوامة اللبنانية كعادته. تعودت الحياة على طبيعته، عرضة للموج الهادر من بعيد. تعودت الأمواج أن تذوب فيه. أن تجد طريقها للإنسراب فيه.
لبنان حارس المرمى. أدى دوره البارحة على أكمل وجه، فما سمح بالإفتئات عليه، وما أذن بغلبة الموج، فوق جدرانه. ولا أذن للطائش، ولا للطيش.
لبنان يدعو أهله، للإطمئنان عليه.
بلد يعرف حدوده المرسومة. بلد يعرف حظوظه المقسومة. بلد لا يعرف اليأس، ولا يعرف الموت.
تجر المصائب إليه، من كافة أرجاء العالم. من كافة أرجاء الإقليم. فيحملها إلى دواماته الصغرى والكبرى، ويذيبها فيها. ثم يضع خده على غده، يطمئن لليوم الذي هو فيه.
لبنان يقول للعالم حوله. يقول أيضا لمن بعدهم: تفيضون علي، ثم تلعنون فيضكم. لا وقت لإجراء الحسابات. لا وقت الآن للمناكفات. كفوا شركم عني. أوقفوا في البلاد نهر الشر. أمواجه. حجارته. طميه. لا تغرقوني بوحول سياساتكم. لا تجروا في البلاد نهر الدم.
إعتاد لبنان على الأمواج. تشققت خده من قبل الأشواق إليه. صنع لها دوامة، يحمي نفسه بها. صارت الأمواج، تجيئه ولا تذهب به. صار لبنان يذهب بها.
أيها العالم المارق، كفى لعبا عندنا. أيها العالم المارق، كفى عبثا بنا. لماذا تصر على قتلنا. لماذا تصر على نحرنا. لماذا تصر على موتنا.
أيها العالم المارق، جربتنا أمس. فماذا أنت فاعل غدا؟

د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى