الأخبار اللبنانية

كلمة الرئيس ميقاتي خلال جلسة مناقشة البيان الوزاري

عقد مجلس النواب جلسة صباح اليوم لمناقشة البيان الوزاري لحكومة الرئيس تمام سلام. وقد ألقى الرئيس نجيب ميقاتي الكلمة التالية خلال الجلسة: دولة الرئيس

بات من البديهي أننا كلـّما وقفنا على منبر نبدأ بالقول: “إننا نقف في بلدنا على مفترق تاريخي”… فالمفترقات التاريخية في لبنان تأتي في كل فترة، ويوماً بعد يوم تضيق الفترات فنرى أنفسنا أمام منعطفات دائمة لا تنتهي، ويبدو لنا كما لو أن لبنان في فترةٍ دائمة من الأزمات.

كيف تنتهي هذه الفترة ونحن في زمن التحولات؟ لا بل في زمن المتغيرات والإنذار بسقوط ما كنا نظنه من الثوابت، وبروز التحديات الكيانية التي قد لا تترك لأحد هامشاً واحداً من الخطأ؟

إننا في مرحلة تشهد صعود قوى إقليمية من حولنا، مرحلة تعيد إلى الأذهان أيام الحرب الباردة التي لم تعد باردة في أيامنا بعد أن كوتها نار التطرف و الموت المجاني والحروب غب الطلب، وإستهداف المدنيين والنساء والأطفال. وهذا الأمر يرسم ملامح لحظات مصيرية على الصعيدين الإقليمي والمحلي. فإما أن نكون أو لا نكون… لا سمح الله.

في هذا المشهد المؤلم والذي يحفر عميقاً في ضمير عالمي نائم أو مخدر، نرى أنفسنا في دوّامة مخيفة:

العالم العربي مهدد ومنقسم، لا يتوحد على رؤية مشتركة ولو بالحد الأدنى.

حاضرهم غامض، مستقبلهم حالك، وأصبحوا كما لو أنهم يتلقون الضربات من دون حق إمتياز ردها عنهم، ولا حتى الدفاع عن أنفسهم.

نظرة دامعة إلى فلسطين اليوم، المهددة في شعبها وأرضها وعاصمتها ومقدساتها، تدفعنا إلى السؤال: هل ضاعت قضية العرب أم أضاعت القضية عَرَبها؟

كيف لنا أن تكون قضيتنا فلسطين وفلسطين أصبحت قضايا، لا بل أضحت مجرد عنوان عقاري أو صدفة ديموغرافية أو معضلة أمنية، ومن الشتات إلى الفتات.

نظرة دامية إلى وطننا الصغير بجغرافيته الكبير بشعبه وطاقاته، تظهره اليوم ملفوفاً بحزام ناسف من المخاطر والفتن التي تهدد كيانه ووجوده.

في الجنوب السخي والمعطاء بالتضحيات، يلفنا الخطر الإسرائيلي وينتهك سيادتنا وكرامتنا كل يوم.

وإلى البقاع وعرساله والشمال وعاصمته حيث تتلون أرضنا بدم الأزمة السورية التي استنزفت طاقات هذا البلد الشقيق، بشراً وحجراً، وفي أعناقنا مئات الألوف من النازحين على أرضنا، ونحن نئن وننزف ولا علاج نراه في العين المجردة من كل درع يقينا مخارز الإستنزاف.

شباب لبنان في عين الأخطار… وليس أمامهم إلا البحر أو المطار.

دولة الرئيس

لم أعتد رسم هذه الصورة السوداوية في وجه أحد، لا بوجه حكومة ولا سلطة من أي نوع كانت. حسبي أن أرسم المسؤوليات أمام نفسي أولاً وأمامكم ثانياً عَلَّنا نستفيق ونواجه هذا السواد ببياض وحدتنا وعزمنا وإرادتنا.

كفانا خسارات وطنية فادحة..
كفانا مزايدات وإنفعالات وأحقاداً..
كفانا تحريضاً وتخويناً..
كفانا سجالات عقيمة أتعبت اللبنانيين من دون طائل..

خاصة أنه لدينا في جعبتنا الوطنية أكثر من حل وعلاج، فلنبادر كي نحدد مستقبلنا بأنفسنا.

إنّ سياسة النأي بالنفس التي انتهجتها على مدى عمر حكومتي السابقة لا تزال هي السياسة الأنجع لتحييد وطننا قدر الإمكان عن الأزمة السورية. كما أن تحصين الإستقرار اللبناني، الذي لاقينا فيه دعماً دولياً وإقليمياً، يشكل فرصة لتجنيب وطننا المزيد من الأزمات من خلال تعزيز الإستقرار فيه وتثبيت دور المؤسسات العسكرية والأمنية وفي مقدمها الجيش اللبناني.

لقد وضعت حكومتنا خطة واضحة للمرة الأولى لتسليح الجيش، خطة من المقدر لها أن تكون مدخلاً لإنتاج إستراتيجية دفاعية واقعية تجعل للجيش اللبناني الدور الأساس في مواجهة الإعتداءات الإسرائيلية وحماية حدود الوطن… كل الوطن. كما أن الهبة غير المسبوقة التي قدمتها المملكة العربية السعودية مشكورة للجيش اللبناني تحمل في مضمونها أكبر مؤشر على مدى دعم المجتمعين العربي والدولي لإستقرار لبنان.

دولة الرئيس

إننا في الأشهر القليلة المقبلة أمام إستحقاقات ديموقراطية عديدة لعل أبرزها إنتخابات رئاسة الجمهورية التي نأمل أن تجري في موعدها الدستوري. كما نأمل أن نتفق عبر مؤسساتنا الدستورية على وضع نظام إنتخابي يوّحد أبناء الوطن ويكون سبيلاً للتمثيل الصحيح للمجتمع اللبناني.

كما أنه من المفيد أن تعود طاولة الحوار إلى اللقاء شرط أن تحصن قراراتها عبر المؤسسات الدستورية الرسمية وأهمها مجلس النواب الذي يعبر عن إرادة الناس … كلّ الناس.

دولة الرئيس

إن المعبر الأول لحماية لبنان وتحصين أرضه ينطلق بالدرجة الأولى من طرابلس، مدينتي الغالية، التي أغفل البيان الوزاري للحكومة ذكر جرحها النازف والموجع.

إنني أرى الآن فرصة حقيقية لإيقاف حمام الحروب العبثية في طرابلس لأن من وصف الفريق الآخر بشتى النعوت وتمنـّع عن الجلوس معه، يجالسه ويتوافق معه على صيغ مختلفة، فليرحموا مدينتي وأهلها وليكملوا ما بدأناه على صعيد إعداد خطة إنمائية للمدينة وليدعموا القوى الأمنية حتى تبسط نفوذها وتوقف كل مرتكب قتل نفساً بغير حق سواء في مسجدي السلام والتقوى أو إعتداءً على أبرياء في شوراع المدينة وأزقتها، تمهيدا لإعلان طرابلس مدينة منزوعة السلاح.

دولة الرئيس

إن من يعتقد أن حدود الفتنة ستنحصر في طرابلس هو واهم، ومن يتصور أنه يستطيع تغيير وجه طرابلس بعاداتها وثقافتها ومدارسها ومساجدها وكنائسها مخطئ ومخطئ جداً.

طرابلس كانت وستبقى متسامحة وسموحة، عنواناً للوسطية التي باتت تشكل أحد أبرز عناصر الإستقرار الوطني.

الوسطية هي صناعة الإجماع قدر الإمكان لتسوية مقدّرة في بلد مجبول بالتسويات، مهما بلغ الخصام بين أهله.

الوسطيّة هي مقياس الأداء الجامع، وعلاج الأزمات المستعصيّة عندما يواجه شركاء الوطن جدار الجدل العقيم والإنتحار البطيء.

الوسطيّة كانت وتبقى بالنسبة لي أنقى مبدأ في التموضع السياسي والأكثر إنحيازاً للوطن، كل الوطن.

وخلال زيارتي الأخيرة إلى تونس جاءني دليل زاد قناعتي بهذا النهج. فخلال لقائي قادة أحد أحزاب الاكثرية المخول تولي السلطة سألتهم عن سبب تنازلهم عن هذا الحق فأجاب رئيسهم: “هو سؤال طرحه علي كلّ المحازبين والأصدقاء والمريدين فقلت لهم “المهم أن تبقى تونس، وتولّي السلطة أمر مقدور عليه في أي وقت”. وأنا، أيها السادة، أقول لكم، كما دائماً أقول، وكما هي قناعتي:”المهم أن يبقى لبنان… المهم أن يبقى لبنان”.

وقد ترجمت هذا المبدأ بترفعي عن كل الإساءات التي لحقت بي على مدى السنوات الماضية من أي جهة أتت، وإنني لن أرد على أي تجريح، فالوقت ليس للجدال بل للعمل.

دولة الرئيس

إنطلاقاً مما سبق أتوجه إلى كل القوى السياسية اللبنانية لأقول:

حسناً فعلتم إن جلستم معاً والتقيتم معاً في الحكومة، وحسناً أنكم توافقتم على بيان وزاري يلامس كل العناوين مواربة، كان أجدى لو اشترينا بعضاً من زمن أضعتموه في رفع السقوف وفي حملات التجريح و التخوين ومحاولات الإقصاء.

ولأن لي في هذه الحكومة وزراء أصدقاء، أصحاب كفاءة اختبرتهم عن قرب وكانوا نموذجاً في الكفاءة والمتابعة،

ولأن كل وسطي في هذه الحكومة هو عضو إلزامي في مركب الوسطية الذي أفتخر بأنني كنت ولا أزال من رواد قيادته في أشد العواصف لإيصال لبنان إلى شاطئ الأمان،

ولأن دولة الرئيس تمام سلام هو رئيس الحكومة رجل يتحلى بالصفات الوطنية وإبن بيت عريق،

ولأنني أعتبر أن ما قامت به حكومتنا أسَّس لوجود الحكومة الحالية، وأن ما انتهجناه مضى الآخرون في تطبيقه متجاوزين ما قالوه على هذا المنبر بالذات قبل ثلاث سنوات تقريباً،

ولأنني أعتبر حبر الوسطية دامغاً لا يؤثر فيه تطاول أو تجن،

ولأنني إخترت وأختار دائماً أن “يبقى لبنان” وأن تكون هذه الحكومة عدوّة المصالح الضيّقة لصالح المصلحة الوطنيّة كما هو إسمها،

لكل هذه الأسباب:

أعلن بإسمي وبإسم زميلي أحمد كرامي منح الحكومة الثقة وأتمنى لها النجاح وحسن الأداء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى