المقالات

مخيم اليرموك: رحلة الرصاص والدم.. وحكاية نكبة ثانية كادت أن تقع – بقلم: معتصم حمادة

الحرية: ماذا حصل في مخيم اليرموك، وهل كان بالإمكان تجنيب المخيم كأس العذاب؟ لماذا فشلت الحالة الوطنية في منع قيام “اللجان الشعبية المسلحة”، وما معنى أن ينتشر السلاح في المخيم في ظل الحالة السائدة في جواره؟
•    كيف انهارت “دفاعات” اللجان الشعبية المسلحة وما هي ملابسات السرعة التي استولت بها المعارضة المسلحة على المخيم؟
•    من أين أتى الإنذار المشؤوم الذي جعل المخيم يرحل دفعة واحدة صباح الاثنين في 17/12/2012؟
•    كيف عاش نازحو المخيم ومهجروه الساعات الـ48 من الهجرة القسرية التي أرغموا عليها؟
•    هل استقر وضع المخيم وهل تم الالتزام بالاتفاق كاملاً وهل رحل عنه المسلحون كافة؟
•    ما هي المهام الفورية الملقاة على عاتق المجتمع المحلي ليستعيد “اليرموك” حياته الطبيعية؟

ماذا حصل في مخيم اليرموك؟ ولماذا؟ وهل ماحصل كان بالإمكان تفاديه ولو اتبعت سياسات معينة؟ ولماذا غادره سكانه فجأة بالآلاف صباح يوم الاثنين(17/12/2012) وهل كان معرضاً حقيقة لخطر القصف والتدمير؟ وهل كان بالإمكان تفادي هذا النزوح الجماعي لو اتبعت إجراءات معينة؟ وإلى أين توجه مهجرو اليرموك وهل توفرت لهم الرعاية المطلوبة وهل تأمنت لهم احتياجاتهم الإنسانية لتخفيف وطأة الهجرة عن العائلات التي وصفت هجرتها، من المخيم، بأنها الهجرة الثانية، باعتبار أن هجرة العام 1948 هي الأولى.
وكيف انقلبت الآية فوراً ، وانتقل الناس من الهجرة إلى الرجوع إلى المخيم ” هل حصلت ـ حقيقة ـ مفاوضات مع المعارضة المسلحة؟. وهل جرت بالمقابل مفاوضات مع الجهات المعنية في الدولة السورية؟ من قاد هذه المفاوضات في كل جهة من الجهات؟ وهل التزمت الأطراف المعنية بما تمّ التعهد به، وكم يبلغ عدد الراجعين من سكانه إلى المخيم؟ ومالذي يعيق نقص السكان وتحويل المخيم إلى منطقة أمان لكل سكانه على اختلاف جنسياتهم؟ فاليرموك، هو عنوان لمخيم اللاجئين الفلسطينيين، فيه حوالي 150 – 160 ألف لاجئ فلسطيني والباقي من جنسيات عربية مختلفة.
هذه الأسئلة وغيرها كثير هي التي انشغلت بها الدوائر السياسية الفلسطينية والعربية والإنسانية بشكل عام. وفيما يلي محاولة لتصوير وإعادة تصوير حقيقة ماجرى مخيم اليرموك.
بدأت حكاية مخيم اليرموك حين انتقلت الاشتباكات النارية إلى جواره في منطقتي التضامن والحجر الأسود، مروراً بيلدا. ومن يتطلع إلى الخريطة يلاحظ أن المخيم محاط من جوانبه كافة تقريباً بمناطق ملتهبة، تدور فيها اشتباكات بين المعارضة المسلحة وبين القوات السورية النظامية. فأصبحت القضية الملحة الواجب معالجتها والوصول إلى معادلة لها، هي كيف العمل لتجنيب المخيم ويلات الاقتتال وتحييده وعدم الزج به في الصراع الدائر بجواره.
ليس خافياً أن الرأي العام في المخيم ثلاث وجهات النظر إلى ثلاثة تيارات رئيسية:
•    التيار الأول ينحاز إلى جانب النظام في نزاعه مع المعارضة، ويفترض أن دعم النظام في هذه المرحلة يندرج في سياق الواجبات القومية والأخوية، ووفاء من الفلسطينيين لما يقدمه لهم النظام من خدمات ومعاملات أخوية، لم يميز بينهم وبين أبناء الشعب السوري إلا في الحقوق السياسية التي بختص بها المواطن السوري وحده.
•    التيار الثاني ينحاز إلى جانب المعارضة، منطلقاً من رؤية تقول بوحدة النسيج السوري – الفلسطيني، وأن التغيير لا يصب فقط في مصلحة السوري بل وكذلك في مصلحة الفلسطيني المقيم في سوريا. وبناء عليه يتوجب على الفلسطيني في سوريا أن يقف إلى جانب المعارضة السورية وقواها السياسية – باعتباره جزءاً من القوى الداعية إلى التغيير والإصلاح. يتضرر مما يتضرر فيه المواطن السوري، وتعود عليه بالفائدة التي تعود على المواطن السوري.
•    التيار الثالث رأى أن الانقسام بين مؤيد للمعارضة ومؤيد للنظام مسألة موضوعية، ذلك أنه لايمكن عزل الوجود الفلسطيني في سوريا عما يجري في البلاد من تطورات وما تشهده من إرهاصات للتغيير. خاصة وأن السياسات السورية الرسمية المعتمدة، قربت جداً بين الجانبين السوري والفلسطيني (خلافاً لما هو عليه الوضع في لبنان)، حيث التعايش قائم بينها في المدرسة والمعهد والجامعة، والوظيفة، والحي، وغير ذلك. ولا يمكن لأي طرف أن يحول دون أن يشهد الوضع الفلسطيني انقساماً إزاء الحالة السورية. غير أن تبني وجهة نظر ورأي إزاء الحدث السوري، شيء ، والانخراط في الحراك الدائر في سوريا، شيء آخر. وإن خطورة زج الفلسطيني في الأزمة السورية، أو الانحياز إلى طرف من أطرافها سيعني انتقال النزاع إلى داخل المخيم، وتحويل المخيم إلى خط تماس بين المؤيدين للنظام والمعارضين له. إلى جانب ذلك فإن زج الحالة الفلسطينية في الأزمة السورية خطوة غير حكيمة لا ترى الأمور بالمنظور التاريخي، ولا تريد الاستفادة من التجارب الغنية للشعب الفلسطيني خارج سورية. فضلاً عن أن زج الحالة الفلسطينية بالنزاع لن يشكل فائدة لسوريا وشعبها، بل سيفتح بؤرة صدام جديدة، كصب الزيت على نار الصراع. لذلك دعا أصحاب هذا الرأي إلى “تحييد المخيمات” و “عدم الزج بها في الصراع الدائر”، و “تجنب الانجرار إلى أحد الطرفين في خصم الصراع الدموي المسلح”. مع الحرص في الوقت نفسه على سوريا وأمنها واستقرارها، والدعوة الصادقة لوقف النزاعات المسلحة، والعودة إلى طاولة الحوار والحل السياسي، فهما الطريق الأقصر والأكثر سلامة لمصلحة سوريا وشعبها ومستقبلها السياسي.
تباينات وخلافات في تقدير الموقف
هذه التيارات الثلاثة انعكست في النقاشات الساخنة التي دارت بين أطراف المقاومة الفلسطينية وفصائلها المختلفة، حيث الانقسام من الحدث السوري يتجلى بوضوح أكثر. فعدد من الفصائل تمسكت “بمبدأ تحييد المخيمات وعدم الزج بالحالة الفلسطينية في النزاع”. ولم تخفِ موقفها هذا، بل نشرته على أوسع نطاق على لسان قادتها المركزيين والمحليين. بينما تبنت – على سبيل المثال – الجبهة الشعبية القيادة العامة – موقفاً مؤيداً للنظام، ودعت إلى تسليح مخيم اليرموك بدعوى منع تسرب المعارضة إليه، وتحويله إلى منطقة اشتباكات بين هذه العناصر وبين القوى النظامية السورية. وأيدتها في ذلك منظمة الصاعقة – الجناح الفلسطيني لحزب البعث الحاكم في سوريا – وفتح (الانتفاضة).
قضية السلاح شكلت بنداً كبيراً وضع على جدول الأعمال. ما هي فائدة السلاح في مخيم اليرموك؟ هل هو حقاً لمنع عناصر المعارضة من استعمال المخيم معبراً من “التضامن” إلى “الحجر الأسود”؟ وهل يستطيع مسلحو المخيم فعل ذلك – ألن يؤدي هذا الأمر إلى الصدام بين المخيم وبين المعارضة السورية المسلحة. وألا يؤدي ذلك إلى الزج بالمخيم في الصراع، والزج بالحالة الفلسطينية في خصم الأزمة السورية؟
بعض الأطراف حاول أن يخرج النقاش من سياقه ليوفر لفكرة السلاح مبررها، متسائلاً ما الوسيلة لضبط الأمن في المخيم، بعدما تطورت الأوضاع سلباً في مقاسم الشرطة وبات المخيم بلا مرجعية أمنية رسمية؟
السؤال في حد ذاته فجر المزيد من النقاش، لأنه حاول أن يجعل من فصائل المقاومة قوة شرطية في مواجهة الناس. ما يفتح باب الاحتمالات على مصراعيه. فمن يقدم نفسه قوة شرطية يتوجب عليه أن يمارس دوره كاملاً، وبالتالي أن يعمل لا لفض الخلافات فقط بين الأفراد، بل وكذلك لردع المخالفات، خاصة فيما لو أن الجهات الرسمية تعاملت مع هذه القوة بشكل إيجابي، ومنحتها موافقتها لتكون بديلاً لها في إدارة الشأن الداخلي للمخيم على المستوى الأمني.
جرى التحذير مطولاً من خطورة السلاح في المخيم. وجرى التأكيد أن التحييد هو السبيل الأفضل والأنجح، والأقصر، نحو تجنيب المخيم ويلات الصراع. كما جرى التحذير أن السلاح من شأنه أن يتحول إلى أداة لحسم الخلافات الشخصية في المخيم، إذا لم (ولن) يجد من يضبط استعماله. كما جرى التأكيد (أيضاً وأيضاً) أن السلاح من شأنه أن يجر المخيم إلى اشتباكات مع الجوار. فمن يحمل السلاح إنما يحمله ليستعمله، لا ليتزين به.
الجبهة الشعبية – القيادة العامة بادرت، منفردة، إلى تسليح مجموعات من أبناء مخيم اليرموك. وفي اجتماعات المقاومة فشلت في أن توفر لهذه الخطوة غطاء وطنياً فلسطينياً. إذ رفضت الفصائل، في غالبيتها، خاصة فصائل م.ت.ف. الموافقة على خطوة توزيع السلاح واعتبارها خطوة في خدمة المخيم. بل حذرت من خطورة هذه الخطوة، مرات ومرات، دون ان يعني هذا موقفاً من أطراف النزاع في سوريا، بل من موقع الحرص على تحييد وصون أمن أبنائه وعدم جره إلى صدامات مع القوى المسلحة في المناطق المجاورة.
الجبهة الشعبية – القيادة العامة واصلت بناء مجموعاتها المسلحة في المخيم، وأطلقت عليها اسم “اللجان الشعبية المسلحة!! كما شكلت ما أطلقت عليه اسم، “اللجنة الشعبية الفلسطينية لمخيم اليرموك” أخذت على نفسها إصدار البيانات والتصريحات في انحياز واضح وصريح لطرف على حساب طرف آخر، مما يعني البدء بالزج بالحالة الفلسطينية في الصراع في سورية من بوابة الانحياز لطرف دون آخر.
بداية الرقص … حنجلة
مع انتشار مسلحي “اللجان الشعبية” في مخيم اليرموك، انفتح الباب أمام احتمالات الاحتكاك بالقوى المعارضة المسلحة. ولم يخفِ الأمين العام للجبهة الشعبية – القيادة العامة ذلك حيث نشر على لسان قوله: “لقد سلحنا الشباب لنتصدى لعناصر العصابات المسلحة في جيش الحر”. وقد نظر المراقبون إلى هذا التصريح باعتباره إعلان حرب من داخل المخيم على العناصر المسلحة في المعارضة، مما خلق مخاوف من ردود فعل زج المخيم في ماكان يحاول تفاديه.
انتشرت “اللجان” المسلحة في أنحاء المخيم، خاصة باتجاه حي التضامن، وشارع الثلاثين. ثم ما لبثت أن بدأت بوضع بصماتها على محيط المخيم من خلال سد مداخله الشرقية والغربية بفواصل اسمنيتة، في محاولة لرسم حدود المخيم، ومنع الآخرين من تجاوزه. وكان يمكن لهذه الخطوة أن تبدو مفهومة، كإجراء يحول دخول السيارات العسكرية التابعة للمعارضة إلى أزقة المخيم وشوارعه. لكن حدثين أكدا أن هذه الخطوة كانت منحازة، وأنها دفعت بالمخيم، ليحسب على طرف دون آخر، والزج به في خصم الأحداث.
•    الخطوة الأولى حين قامت بعض “اللجان” يتجاوز حدود المخيم كما رسمتها هي بالسدود الاسمنتية، والتسلل إلى مناطق التضامن ويلدا، وأطراف الحجر الأسود والاحتكاك بالنيران بعناصر “الجيش الحر”، مادفع هذا للنظر إلى المخيم على أنه جبهة مفتوحة قد تأتيه النيران منها.
•    الخطوة الثانية حين واصلت، السلطات المعنية الدخول إلى المخيم، في الساعة التي تشاء، لتعتقل بعض المطلوبين من سكان المخيم. ما أكد أن وجود – “اللجان المسلحة”- إنما يستهدف طرفاً دون آخر، وهذا معناه – كما أسلفنا – زج المخيم في الصراع باعتباره طرفاً من أطرافه، أو موالياً من موالي هذا الطرف أو ذاك.
اشتباكات. دم وقتلى
تطورت الأوضاع إلى اشتباكات أوسع سقط فيها من الطرفين قتلى، علقت صور أبناء المخيم في على الجدران. كما بدأ المخيم يتعرض لقصف المدفعي،كما أفسح المجال لكل طرف الاتهام الطرف الآخر باستهداف المخيم. وقد عجلت بيانات “اللجنة الشعبية” الموالية للجبهة – القيادة العامة -، في اتهام “الجيش الحر” بالمسؤولية عن القصف، في دفع أطراف أخرى لاتهام جبهات رسمية بالقصف المتعمد.
وسقط في المخيم شهداء القصف، والقنص، وأحياناً الخطف على الهوية، الأمر الذي دفع البعض لاتهام “اللجان الشعبية” بالسؤولية عن تسريب الأسماء للهيئات السورية المعنية. فتزايد الحقد، والاحتقان، وكما توقع بعض المراقبين إلا أن عوامل التفجير لهذا الحقد، وهذا الاحتقان، أخذت بالتزايد واتخذت طابع صدامات دموية مشبوهة، جرى التغطية عليها.
تجددت النداءات بوقف المسلحين في اليرموك، وسحب سلاحهم، والعمل على إطفاء النار التي أشعلها توزيع السلاح خارج القرار الوطني الفلسطيني.
وبدأت من خلف الخطوط النار تأتي الاشاعات المفبركة على لسان بعض الأطرف المعارضة. بعضها يهدد المخيم بكل فئاته لأنه “يعجز” عن منع عناصر القيادة العامة من حمل السلاح. والبعض الآخر يحصر تهديداته بعناصر القيادة العامة. كما بدأت تأتي اتساعات من الأطراف الأخرى تتهم المخيم “بعدم الوفاء لسوريا” لأنه لم يحمل السلاح ضد عناصر المعارضة. أي باختصار أدى توزيع السلاح إلى خلق بلبلة في الرأي العام، وانقساماً في المواقف الفلسطينية، بل كشف الحالة الفلسطينية أمام الحدث السوري، فبدت عاجزة عن اتخاذ موقف عقلاني، وموحد، فيه من المسؤولية الوطنية والقومية ما يخدم المصلحتين الفلسطينية والسورية على السواء.
“وقع ما كنا قد حذرنا منه”
منتصف شهر كانون الأول (ديسمبر) الجاري شكل منعطفاً في الحالة الفلسطينية بصلتها مع الحالة السورية. إذ بدأت تتوارد أنباء عن نية المعارضة المسلحة اقتحام المخيم والاستيلاء عليه، بعدما تحول إلى عائق لحركتها ما بين التضامن والحجر السود ومن خلفه مع القدم وعسالي، والعمق الريفي لهذه المناطق! بسبب الحواجز التي تقيمها الجبهة الشعبية – القيادة العامة.
لعل البعض لم يأخذ هذه التهديدات والأنباء على محمل الجد، باعتبارها أنها ليست المرة لأولى التي تتسرب منها مثل هذه الأنباء. وكان ملاحظاً أن ما من حركة سياسية قامت على خلفية هذه التهديدات. اشتعلت خطوط التماس بين اليرموك وجواره. عناصر – “القيادة العامة”- من جهة، وعناصر المعارضة المسلحة من جهة أخرى. المفاجأة الكبرى تمثلت بسرعة قدرة عناصر المعارضة على حسم المعركة ودخول المخيم والتوغل في شوارعه وأزقته من جنوبه وصولاً إلى أقصى شماله،حيث أخذ الاحتكاك الجاري مع عناصر القوى النظامية في محيط مخفر اليرموك.
بعض الأنباء فسر سرعة اقتحام عناصر المعارضة للمخيم، بأنها ناتجة عن سرعة في انهيار عناصر -“القيادة العامة”- الذين فشلوا في التصدي للطرف الآخر، فرموا أسلحتهم وتواروا عن الأنظار تاركين مواقعهم خالية.
أنباء أخرى قال إن حوالي مئة من أنصار –”القيادة العامة”- انشقوا عنها، وتقدموا نحو عناصر المعارضة يهللون ويكبرون، ويرفعون سلاحهم في الهواء، لينضموا إليهم ويصبحوا جزء من قوى المعارضة. وأضافت الأنباء أن هؤلاء شكلوا في ما بينهم “الجبهة الشعبية – القيادة الحرة”. بدلاً من القيادة العامة”.
خبر ثالث قال إن هناك تواطأ حصل بين الطرفين، مقابل مبلغ من المال. أحمد جبريل، الأمين العام للجبهة، فسر الأمر بأن الجبهة، حقنا للدماء أصدرت أمراً بعناصرها بالانسحاب وعدم القتال، ما يناقض كلامه السابق في أن هذا التشكيل تم بناؤه لأجل التصدي لعناصر “الجيش الحر”.
مع توغل عناصر المعارضة تعرض المخيم للقصف المدفعي. كما شنت إحدى الطائرات غارة على أحدى مساجده وثلاث من مدارسه. كما قامت المروحيات بمطاردة عناصر المعارضة في الشوارع، ملحقة الأضرار أيضاً بالممتلكات – وتحول المخيم إلى ساحة قتال ، وهو ما كانت الفصائل قد حذرت منه.
انتشار متعدد الاتجاهات واتفاق ضمني
تنتشر في المخيم عشرات المسلحين، بعضهم تزياً بعصبة هي الحطة الفلسطينية، أطلق على نفسه زهرة المدائن. وبعضهم الآخر قيل أنه تابع لجبهة النصرة. والبعض الآخر قيل أيضاً إنه تابع لفتح الإسلام. كما وصفت مجموعات بأنها قادمة من الحجر الأسود، وتداول أبناء المخيم أسماء لأفراد قيل أنهم يقودون مجموعات مسلحة دخلت المخيم واستولت عليه وبدأت الاشتباك مع عناصر القوى النظامية عند مدخله الشمالي.
ليل الأحد – الاثنين (16- 17/12/2012) ساد المخيم هدوء شديد، رافقته أخبار انتشرت كالنار في الهشيم، تقول ما مفاده أن القوات النظامية أمهلت السكان لمدة ساعتين، من السادسة صباحاً حتى الثامنة – لمغادرة المخيم، قبل أن تبادر إلى اقتحامه. تبادلت العائلات النبأ عبر الهواتف. وما أن انبلج الفجر، وازفت الساعة السادسة، حتى كان الشارع الرئيسي في مخيم اليرموك يعج بآلاف النازحين. نزلوا إلى الشارع دفعة واحدة، وساروا باتجاه مدخله الشمالي، يحملون أمتعتهم على ظهورهم وفوق رؤوسهم. مشاة، تحت طقس شديد البرودة، الأطفال ، والنساء، والعجائز، والرجال. مشهد لم يرَ اليرموك له مثيلاً. كبار السن، ممن شاركوا به، قالوا أنه أشبه بيوم النكبة يوم الخروج من فلسطين.
بدأ المخيم يخلو من سكانه، غادر، حوالي 150 ألف لاجء فلسطيني دفعة واحدة، وعشرات الآلاف من السكان الآخرين من الجنسيات الأخرى. وأصبح اليرموك ملعباً للمسلحين وحدهم، يمارسون فيه هواية القتال. تساقطت على اليرموك القذائف، كما تساقط المطر، دمرت المنازل والمحال، والسيارات وعربات الخضار، كما تناثرت أشلاء القتلى في الشوارع. إنها النكبة !
هل يمكن ان تتواصل النكبة وأن تستمر الحالة على ما هي عليه؟ المهجرون في الشوارع، والحدائق ، في المدارس، وفي المساجد، في ظل طقس عاصف رافقته رعود وبروق وأمطار غزيرة ورياح عاتية، زادت من آلام المهجرين وأوجاعهم. فتداعت لجان الإغاثة والجمعيات الأهلية. لكن من بإمكانه أن يعيل أكثر من ثلاثمائة ألف نازح. حليب للأطفال. أغطية. وسائد. طعام. أدوية. أطباء وغير ذلك.
النكبة أكبر من ان يقف المرء مكتوف الأيدي إزاءها. ثم أين هو الاعتبار السياسي لليرموك “المأوى الكبر للاجئين الفلسطينيين في سوريا”. وهل إذا اتخذت فئة موقفاً سياسياً، تكون ردة الفعل على هذا المستوى بحيث يتم تهجير سكان المخيم وإخضاعه بمنازله ومحلاته ومتاجره للنار؟
بدأت عملية الاتصالات تتحرك في كل الاتجاهات. سفير فلسطين توجه نحو الخارجية السورية في دمشق. وممثلو الفصائل والقوى توجهوا إلى باقي الأطراف. وعنوان التحرك وقف القتال. إخلاء اليرموك، وتحويله منطقة أمان. وعودة المهجرين إليه فوراً ودون إبطاء. وتحت ضغط التحركات، والاتصالات التي تمت على مستوى العلاقات الخارجية والدولية، تجاوبت الأطراف. بعضها قدم تعهداً شفوياً بعدم اقتحام المخيم. وبعضها أصدر بياناً علنياً تعهد فيه بالانسحاب من المخيم وتسليمه إلى “الأخوة الفلسطينيين”.

صباح الأربعاء … العودة الجماعية
تقررت العودة صباح الأربعاء (19/12/2012) أي بعد 48 ساعة على التهجير وأن يكون الدخول أمناً إلى المخيم بدءاً من الساعة الثامنة صباحاً، قبل الثامنة، ومنذ ساعات الفجر الأولى تجمع عند مدخل المخيم [البطيخة ومستشفى رحمة] الآلاف ينتظرون الإشارة ليتقدموا نحو مخيمهم. وبمبادرة من بعض الشبان، وبعض الناشطين السياسيين بدأ تدفق العائدين إلى المخيم من مداخله المختلفة. تحت وابل من المطر الكثيف، وفي أزقة وشوارع غمرتها المياه، ساروا متدفقين. خرجوا من المخيم على مهل، بخطوات بطيئة مترددة، وعادوا إليه بخطوات واثقة قوية، سريعة متعجلة لتفقد المنزل والسيارة، والحي والحارة. والشعار يقول: “من اليرموك إلى فلسطين”.
في بعض الزوايا تجمع بعض المسلحين يراقبون العائدين. بعض النازحين لم يخفِ مشاعره فبدأ بالصراخ ضد وجود السلاح في المخيم. ثم تحول الصراخ إلى تظاهرة شقت الشارع الرئيسي في المخيم، تهتف لفلسطين. لفلسطين وحدها، ترفع العلم الفلسطيني. العلم الفلسطيني وحده. وتهتف”من يرموك لفلسطين” ترفض النزوح. ترفض الهجرة. نرفض حياة الذل. الموت في لرموك ولا مذله التهجير والنزوح إلى الأزقة والحدائق والمدارس والمساجد، ولا حتى إلى بيوت الأصدقاء والأقارب.
والتقت فصائل المقاومة تطلق النداء تلو النداء، تدعو من لم يعد بعد، للعودة إلى منزله وأملاكه في اليرموك. وفي مكاتب مجلة “الحرية” الفلسطينية في المبنى التابع لدائرة الإعلام والتوثيق التابعة للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين تشكلت الهيئة الوطنية الفلسطينية لمخيم اليرموك من ممثلي فصائل م.ت.ف والعديد من الشخصيات والفعاليات الوطنية والمجتمعية في المخيم، آلت على نفسها واجب تسهيل عودة النازحين والمهجرين إلى منازلهم ومخيمهم. وأسفرت اجتماعاتها عن تشكل عشر لجان في الأحياء الكبرى في المخيم، مهمتها تسهيل عودة النازحين، والاتصال بالجهات المعنية لترميم ما خربته الحرب، ودعوة المحال والمتاجر والفران لفتح أبوابها، ودعوة العمال الفنيين لإصلاح شبكة الإنارة في الحي، وإصلاح شبكة مياه الشقق مساعدة المنكوبين في منزلهم المصابة بالقصف على إزالة الردم، وإصلاح ما يمكن إصلاحه.
اتفاق لم ينفذ كاملاً
وحتى كتابة هذه السطور مازال العديد من أبناء المخيم يعودون إلى منازلهم. ولكن….
مازال هناك العشرات من المسلحين، ينتشرون عند “خط التماس” على خطين: الأول خط شارع الثلاثين، من المنطقة الممتدة من ساحة الريجي، حتى مداخل المخيم الشمالية، حيث أزيز الرصاص يعكر صفو المخيم بين فترة وأخرى، ويعطل على سكان هذه المنطقة فرحة العودة إلى منازلهم. أما الثاني فهو خط شارع جلال كعوش، مركز الغاز مبنى البلدية في شارع فلسطين المجاور لحي التضامن، حيث مازال بعض الرصاص يلعلع بين فترة وأخرى، حاصداً في بعض المرات أرواحاً بريئة.
وكما علمت “الحرية” فإن الاتصالات على كل المستويات مازالت نشطة لإيجاد مخرج للمسلحين لمغادرة المخيم، وتسوية الوضع، وبالتالي تحويل المخيم، حقاً إلى منطقة آمنة خالية من كل مظاهر السلاح، في داخله، وفي محيطه، وعد مداخله، لأن أهل اليرموك أدركوا خطورة السلاح، وأدركوا أن العيش بسلام يفترض التمسك بسياسة التحييد وعدم الزج بهم في النزاع المحلي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى