المقالات

هدى بياسي… منابر الفجر بانتظارك- بقلم: سعد الدين شلق

ما أصعب أن يعيش المرء خارج ذاته! وما أقسى أن يوقّع على صفحة حياته بأقلام الماضي! فشرايين كتّاب الحاضر لا يمكن أن تنبض بحبر الأمس، وسطوره لا تهتزّ ارتياحاً إلا إذا رقصت عليها من مداد الإبداع عذارى الرصد لكلّ جديد يتراءى على أهداب المستقبل.
كون الحياة حركة يعني أنّ الجمود هو الموت هو السير عكس سيرورة الزمن وصيرورة الأشياء، ولأنّ الإنسان لحن في سمفونية هذا الكون فمن حقّه أن يكون حرّا في ارتياده صوتاً وصدى وإلاّ كان نشازاً في تلك السمفونية الرائعة.
أجل أن يغترب المرء عمّا يسرّه إليه خالقه معاناة لا تطاق فكيف إذا كان المغترب تلك الأنثى التي حباها الله سرّ خلقه وأودع في كيانها من أسرار عظمته ما جعلها منطلق الخلق ومعاده، منها تأتي وإليها تتوق وبين هذا وذاك رحلة لا تبدأ إلا منها ولا تنتهي إلا إليها في مسار دائريّ فردوسيّ ربما كانت دائرية الكون صدى من أصدائه. وفي هذا المجرى يصبّ قول القائل:
أنا غيث على وشك انسكاب فكوني الأرض تلهث واستقيني
وكوني البحر تقصده السواقي إذا ما الماء حنّ إلى المعين
في ” أنثى الهذيان ” تطلّ عليك هدى بياسي من على منابر الفجر تحدّق في الشمس تحديق سيف البطل في مقلة الانتصار. همّها أن تقول بقوة الإيمان كلمتها المدوّية بل كلمة الجسد على ايقاع الرعشة المقدسة كما يجوب البرق بلكمته آفاق الظلام.
أجل أيتها الكاتبة كما قلت تماما:
حزينة هي الرعشة حين نئدها في جسد لا يعنينا.
نحن نختنق كلما ابتعدنا عن مدار قلوبنا.
إلى أيّ مدى نستطيع أن نكون أناساً غيرنا؟
ألمي حكايتي فهل يمحو الدمع الحكايا؟
حين نفقد الذين نحبّهم لا نفقدهم بقدر ما نفقد القدرة على الإحساس بالوقت بعدهم
تسألينني عن الشوق؟ هو ارتكاب الوحدة في سطوة الجماعة بل هو انشطار ضوئي للحظة.
نعبد الله خوفاً لا محبة.
تريد هدى بياسي المسكونة بألف بركان وبركان ما أراده نزار قباني في قوله مخاطباً فتاة الشرق:
ثوري أحبّك أن تثوري
ثوري على شرق السبايا والتكايا والبخور
ثوري على شرق يراك وليمة فوق السرير
لا ترهبي شيئاً فإنّ الشمس مقبرة للنسور
تريد هدى بياسي ما أراده أبو العلاء في قوله:
متى يحبس الدجن المطبق بارقاً يجبه ويخرج ساطعاً من ركامه
تريد ما به بشّر خليل حاوي في هتافه:
أضلعي الجسر في الفجر خفافاً
أضلعي امتدت لهم جسرا وطيد
من كهوف الشرق من مستنقع الشرق
الى الشرق الجديد. أضلعي
امتدت لهم جسرا وطيد.
إنّ هاجس هدى بياسي في ” أنثى الهذيان ” يتمثّل بضرورة أن يطلق الحبّ صرخته مدوّية كالرعد الذي يعيد تشكيل خارطة الغيوم أو كالزلزال الذي يرسم من جديد خارطة الشرق الذبيح.
وما لفتني في ” أنثى الهذيان ” حالة شعرية توشّح الرواية كلّها فإذا بها تخاطب العقل بقدر ما تستولي على المشاعر. لغتها إيحائية إيمائية بامتياز واذا باشرت فتلك صحوة ما بين الرمز والرمز. أسلوبها يقوم على التكثيف مع شفافية وتوهّج تبدو الكاتبة بينهما شمعة تذوب تعبّدا في محاريب يقينها بأنّ الحرية هي الحياة وأنّ الحياة هي الحبّ الذي تشدو الأفلاك لنعماه في دورانها الأبدي.
هاجس الكاتبة إذا أن يرتّل الجسد مزاميره على إيقاعات ما في هذا الكون العظيم من عوالم مرئيّة وغير مرئيّة بكلّ ما فيها من كواكب وسدوم ونجوم.
أيّ ليل أعتى من ليل التقاليد العمياء تطفىء بصائرنا وتضرب على أيدينا وتوجّه إلى المجهول خطانا وتغلق نوافذ حاضرنا وتستبيح أحلام مستقبلنا ثمّ بعد كلّ ذلك نسبّح لها كما يسبّح الصوفي في محاريب تجليّاته ورؤاه؟
أيّ ليل أعتى من جهالات متوارثة تسلّ خناجرها على عذارى الضوء لأنّها لا ترتوي إلا من دم الفجر يريقه جيش الظلام؟
هدى بياسي في ” أنثى الهذيان ” نرجو أن تحرّكي بصرختك بحيرة الشرق الآسنة لعلّه يصحو ويستفيق، وقبل أن أختم لا بدّ لي من الإشارة إلى الذوق الفنيّ الرفيق في التقاط المفردات المتناغمة المعبّرة. ولعلّ الكاتبة كانت من أبرع من أتقنوا العزف على أوتار البديع في كتاباتهم.
من تعابيرها: عقدتي أنك عقيدتي
أعلنت الهزيمة انتصارها
يتعاملون مع المرأة باعتبارها متعة لا تلبث أن تصير متاعاً
مارسني بذلك الرقيّ الذي يذوب احترافا لا احتراقا
الصدمة كانت أقوى من الاصطدام
تخاف لأنك إن فكرت كفرت
ختاماً أيتها الكاتبة أقول له أنّ منابر الفجر بانتظارك، فكوني الشمس التي تعلوها على الدوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى