المقالات

محرقة غزة… من سيحترق في نارها بقلم: معن بشور

محرقة غزة… من سيحترق في نارها
بقلم: معن بشور

هل تنجح تسيفي ليفني في تحقيق اهدافها الانتخابية عبر مجزرتها الدموية في غزة هذه الايام  فيما فشل فيه شمعون بيريز في “عناقيد غضبه” على لبنان عام 1996، فيصار الى انتخابها رئيسة للحكومة الاسرائيلية بعد ستة اسابيع، بينما اخرج تفاهم نيسان الشهير بيريز من رئاسة الحكومة آنذاك ليأتي نتنياهو “الملك” رئيساً لتلك الحكومة؟
وهل سينجح ايهود اولمرت وهو يعيش ايامه الاخيرة في الحكومة، ان يستعيد هيبة فقدها، وان يرمم صورة تكسرت، في حرب تموز 2006 على لبنان، وكان ما زال في ايامه الاولى في الحكم، بل في ان يستعيد لمواطنيه ثقة اهتزت مع الفشل المدوي لاهداف عدوان استمر 33 يوماً واستخدم من القذائف ما فاق كل ما استخدم طيلة الحرب العالمية الثانية؟
وهل سينجح جورج بوش الابن وهو يودع البيت الابيض في تحقيق نصر “يتيم” في حرب حلفائه على غزة، بعد ان كانت ولايته الممتدة لثماني سنوات مليئة بالفشل والخيبة والازمات على كل صعيد، بل توجّها حذاء منتظر الزيدي فيما كان بوش يسعى لتغطية خزيه، والعار الذي الحقه ببلاده، بورقة اتفاقية امنية وقعها محثل مع حكومة عينها بنفسه وتخشى الرحيل فيما لو رحل جيش الاحتلال عن العراق؟
ثلاثة اسئلة تطرح نفسها بقوة هذه الايام، فيما الدم ينهمر شلالات على ارض غزة، وفيما الدمار يلف مدنها ومخيماتها، مساجدها وجامعاتها، بيوتها وسراياتها، وفيما رائحة التواطؤ والتخاذل تفوح من اكثر من عاصمة عربية يتطلع المسؤولون فيها “بأمل” كبير الى كسر ارادة الشعب الفلسطيني و “اجتثاث” ثقافة المقاومة حتى لا تصبح المقاومة نهجاً معتمداً من كل الشعوب، وتصبح الارادة الشعبية صاحبة القول الفصل في كل الامور.
واذا كان التحليل البسيط والاولي يقود الى الرد بالايجاب على الاسئلة المطروحة انطلاقا من الظروف الموضوعية التي تحيط بغزة، المحاصرة اصلاً من اربع جهات، والمحاصرة في لقمة عيشها ومقومات حياتها منذ عدة اشهر، والمحاصرة كذلك  بانقسام سياسي فلسطيني، لم نعد ندري اذا كان هذا الانقسام احد اسباب استسهال العدوان على غزة، أم احد العوامل التي مهّدت لهذا العدوان وجهزت الظروف لانطلاقه.
لكن الغوص بالتحليل الى ما هو ابعد مما يطفو على السطح، والى ما هو أدق من الغرق في الدماء التي تسيل كل لحظة على ارض غزة الطاهرة، يقودنا الى اجوبة من نوع مختلف، بل الى سيناريوهات قد ترشح الحرب الدائرة ضد غزة لأن تكون مسماراً جديداً في نعش المشروع الصهيوني الذي لا يدرك احد عمق مأزقه، كما يدركه قادته الذين يهربون دائما، ككل عاجز أو مرتبك، الى المزيد من البطش والقتل والابادة الوحشية تأكيداً لمعادلة كرستها كل تجارب الشعوب وتقول: كلما ازداد العدو عجزاً فانه يزداد بطشاً، وكلما ازداد مأزقه عمقاً فانه يزداد قمعاً، دون ان يدرك ان الدماء التي تسيل على يديه هي التي تحاصره وتحفر حوله الاخاديد حتى تأتي لحظة الانهيار الكبير.
فالحرب التي ارادتها تل ابيب والمتواطئون معها للتخلص من امساك غزة بخيار المقاومة، وتمسكها به على مدى أكثر من 41 عاماً من الاحتلال، هي التي قد تكون سبباً في انتفاضة ثالثة تعم الضفة الغربية، وتتوحد من خلالها القوى الفلسطينية التي فرض عليها الانقسام، وبالتالي ستكون سبباً في اتساع رقعة المقاومة بدلاً من تصفيتها.
وغزة التي ظن اهل العدوان الصهيوني عليها والمتآمرون معهم، انها الخاصرة الرخوة في جسم المقاومة المتنامي في الامة، ستتحول الى ملهمة لنهضة شعبية، طال انتظارها على مستوى الامة كلها، وخصوصاً في الدول التي اختار القيمون عليها نهج الصمت أو التخاذل أو التواطؤ في علاقتهم على اعداء الامة.
فمن يتابع ما يجري في الشارع العربي ( وقد بلغ التشكيك بوجود هذا الشارع وبعروبته اوسع مدى) من نواكشوط في اقصى المحيط الى مسقط وصلالة في أقصى الخليج، لا يلاحظ اتساع الحركة الشعبية العربية الرافضة للعدوان، والمنتفضة بوجه المتواطئين معه فقط، بل يلاحظ ايضاً أمور خمسة بالغة الأهمية.
الأمر الأول هو سرعة التحرك على امتداد الوطن الكبير، إذ لم تمر على نقل الصور المريعة في غزة عبر الفضائيات، إلا وكانت الجماهير في الشوارع، وفي وقت قياسي لم نشهده في أي مرحلة سابقة، بما فيها مرحلة عدوان تموز 2006 على لبنان، حيث تأخر التحرك الشعبي أياماً استغلها بعض الحكام لكشف حجم تورطهم في تلك الحرب على المقاومة.
الأمر الثاني هو في تصاعد التحرك، كماً ونوعاً، كما كان عليه في مرات سابقة مما يؤكد أن حركة الشعوب هي حركة متراكمة متصاعدة لا تنطلق “بكبسة زر”، كما كان يطالب بعض المستعجلين أو المشككّين، بل انها في تراكمها وتصاعدها تزداد خبرة وتجربة، وتبني آلياتها، وتتعرف الى قياداتها الجديدة أو المتجددة، فتتحول شيئاً فشيئاً الى ما يشبه البحر الهادر الذي تتجمع فيه الانهار والامطار، وتصب فيه كل الروافد والينابيع.
الامر الثالث هو في وضوح مطالب التحرك ووحدتها في كل مكان، فقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني وطرد السفير الاسرائيلي مطالب لا ترتفع في الدول التي تقيم علاقات مع تل ابيب فحسب بل في الدول الاخرى، وفتح معبر رفح مطلب اجمعت عليه الامة وبات المدافعون عن اغلاقه يتلعثمون كلما حاولوا ايجاد الذرائع له.
ومن جهة اخرى فان عقد قمة عربية طارئة، رغم محدودية النتائج المتوقعة عنها، بات شعاراً وبنداً في جدول اعمال كل التحركات الشعبية بما يعبر بوضوح عن احساس عفوي بسيط بان تعطيل القمم العربية، مهما كانت مخيبة للامال في قراراتها، هو هدف ثمين لمن يسعى الى ان تحل “الرابطة الشرق أوسطية”، وفي قلبها الكيان الصهيوني، مكان الرابطة العربية وفي قلبها فلسطين، بل كأن الجماهير العربية باصرارها على عقد القمة، رغم عدم ثقتها بعدد كبير من حاضريها، انما تريد ان تثأر لقمة دمشق في اذار/مارس المنصرم، والتي وضعت ادارة بوش كل ثقلها لمنع انعقادها أو لافشالها أو للحيلولة دون مشاركة الجميع فيها.
اما الامر الرابع فهو ان هذا الحراك الشعبي الواسع، قد اتخذ في مصر شكلا جديداً لم تشهده ارض الكنانه من قبل، لا كماً ولا نوعاً، حيث شملت المسيرات الشعبية غالبية المحافظات المصرية وكل الجامعات (رغم التعتيم الاعلامي) كما شاركت فيها كل الاحزاب والنقابات، التي لم تفهم ، كما لم يفهم المواطن المصري العادي، كيف يستمر اغلاق معبر رفح فيما ينهمر على حدود مصر، وبما يهدد أمنها القومي، كل هذا الدم الفلسطيني على يد آلة القتل الصهيونية.
وقد زاد من حدة التحرك الشعبي ان هذه المجزرة قد وقعت بعد يومين فقط على تهديدات سافرة ووقحة اطلقتها وزيرة خارجية الكيان الصهيوني من منبر القاهرة الرسمي، فيما لم تكن مصر قد انتهت بعد من احتفالات العيد الثاني والخمسين للنصر على العدوان الصهيوني البريطاني – الفرنسي للانتصار في معركة بور سعيد الظافرة بالذات والتي شهدت حرباً دمّرت كل احيائها ومرافقها وقتلت الالاف من ابنائها (تماماً كما يحصل اليوم في غزة، وكما حصل في لبنان وكما يحصل يومياً في العراق والصومال).
الامر الخامس هو ان دولاً عربية، كان لها موقف مشجع للعدوان على لبنان عام 2006، قد بدا انها تراجعت اليوم ، اما بالتزامها الصمت أو بافساح المجال لحركة الشارع ان تعبر عن نفسها بكل زخم وقوة، وهو ما يشير الى بداية تفكك فيما اسمته رايس يوماً بمعسكر الاعتدال.
لقد فاجأت الانتفاضة الفلسطينية الجديدة في القدس وفي كل مدن الضفة ومخيماتها، وفي الاراضي المحتلة عام 1948 صنّاع القرار في العواصم العربية والدولية في آن، فادرك الرئيس الامريكي المنتخب باراك اوباما انه اذا اراد ان يحسّن صورة بلاده لدى العرب والمسلمين فعليه ان ينأى بنفسه عن اعلان موقف مما يجري في غزة، مختبئاً خلف “الرئيس  الوحيد لامريكا” جورج بوش الذي لم يعد لديه الكثير ليخسره.
وبقدر ما فاجأت التطورات المتسارعة في الشارع الفلسطيني والعربي العديد من العواصم العربية والعالمية، فان وحشية المجزرة الصهيونية المستمرة في غزة قد اربكت حتى اكثر المؤيدين للكيان الصهيوني والذين كانوا يرون في سكانه “ضحايا” المحرقة النازية فاذا بهم يفاجأون بهذا الكيان وهو يرتكب “المحرقة” تلو الاخرى، بل ويتباهى مسؤولون فيه بهذا الارتكاب.
لذلك كانت ردود الفعل ايضاً في غير عاصمة اقليمية او دولية سريعة على غير عادته، فتركيا الغاضبة دوماً بشعبها على جرائم تل ابيب، غضبت هذه المرة بحكومتها التي اعتبر رئيسها ما يجري في غزة جريمة ضد الانسانية، وهدد بالتنصل من أي مفاوضات تجري برعايته، والموقف ذاته اعلنه وزير خارجية باكستان رغم حراجة وضع بلاده في ازمته مع الهند.
رئيس وزراء بريطانيا نفسه الذي حاول في اليوم الاول للمجزرة ان يبرر العدوان الصهيوني، وجد نفسه امام هول الجريمة وغضب الشارع في بلاده مضطراً للمطالبة بوقف فوري لاطلاق النار، متذكراً مصير بلير الذي ربط نفسه بذيل بوش، فاذ به يسبقه الى الخيبة والفشل والانكفاء رغم كل محاولات “الانعاش” التي تجري له.
الاتحاد الروسي ايضاً كان سريعاً هذه المرة بدعوته لوقف اطلاق النار، ومثله الصين، وهي سرعة لم نلحظها خلال عدوان تموز 2006، وهذا أمر طبيعي في روسيا ما بعد الازمة الجورجية حيث كان التورط الاسرائيلي فيها فاضحاً، وفي الصين التي تخوض معارك صامتة مع واشنطن في غير قارة وفي غير ساحة.
دول كثيرة اخرى، اوروبية وغير اوروبية، سارعت الى ادانة المجزرة والدعوة الى وقف اطلاق النار وهو أمر يسمح للمجموعة العربية أو المجموعة الاسلامية أو مجموعة عدم الانحياز ان تتحرك لاتخاذ قرار في الجمعية العامة للامم المتحدة ( وبعيداً عن الفيتو الامريكي) ووفقاً لمبدأ “التحالف من اجل السلام” الذي استخدم خلال الحرب الكورية  في اوائل الخمسينات وحرب السويس في اواسط الستينات، لاتخاذ قرارات واضحة ضد حروب كانت تشارك فيها دول دائمة العضوية في مجلس الامن ومالكة لحق الفيتو.
امام هذا المشهد الشعبي والرسمي، العربي والاقليمي والدولي، ستجد حكومة تل ابيب نفسها امام مأزق متصاعد وسترى في المزيد من التصعيد الدموي مخرجاً لها منه، ، ويتفاقم المأزق خصوصاً في ظل تحولات دولية، وارتباكات امريكية، فيلجأ العدو الى المزيد والمزيد من التصعيد حسب قوله تعالى في كتابه العزيز ” يمدهم في طغيانهم يعمهون”.
هنا قد لا  تكون غزة وحدها هدفاً كافياً للعدوان، وقد تجد تل ابيب نفسها مضطرة لتوسيع رقعة الحرب والعدوان، فتسعى للثأر من لبنان والمقاومة فيه، وتحاول الانتقام من دمشق والشريان الذي توفره للمقاومة في غير ساحة، وتحقق حلماً قديماً لادارة بوش بالانقضاض على ايران، فتتحول الجراحة الاسرائيلية المحدودة في غزة الى عملية كبرى في المنطقة كلها.
فهل تتحمل ليفني ومعها اولمرت وباراك، نتائج مثل هذا التصعيد، وهل ستجد من يشجعها عليه في ادارة راحلة في واشنطن، أو في انظمة وقيادات مهتزة في المنطقة، ام انها ستتراجع عن مغامرتها الدموية، وتقبل بتهدئة جديدة ولكن بشروط جديدة.
فاذا كانت التهدئة مع الاحتلال امراً غير مستحب عقائدياً ووطنياً وقومياً على غير مستوى، فمن الطبيعي ألا تكون هناك تهدئة لا تنهي الحصار ( والحصار عدوان بكل المعايير) ولا تشمل كل الاراضي المحتلة بما فيها وقف الاستيطان والجدار، ووقف الاعتقالات والاغتيالات واعتداءات المستوطنين، ووقف التهويد والتهجير في القدس.
لقد قلنا في اول ساعات  حرب تموز 2006 على لبنان ونقولها اليوم:
قد يملك الكيان الصهيوني قدرات هائلة على القتل والتدمير والابادة الجماعية،  وهي في النهاية قدرات تكتيكية، لكن هذا الكيان مكبل استراتيجياً لأنه لم يعد قادراً على امتلاك القدرة على تغيير المعادلات، لأن تغيير المعادلات لا يتحقق إلاّ بالاحتلال، وهو أمر مكلف اذا اقدم الجيش الاسرائيلي على احتلال الارض، ومكلف اكثر اذا حاول البقاء في الارض المحتلة.
وسيشرق النصر من عيون اطفال غزة، رغم الدماء والدموع، وسيسقط العدوان والحصار والانقسام، وسيملأ الفلسطينيون الايام الفاصلة بين احتفالاتهم بتأسيس حماس في 21 كانون الاول/ديسمبر، وتلك بانطلاقة رصاصات فتح في الاول من كانون الثاني، بالمزيد من الصمود والمقاومة واستعادة روح الانتفاضة.
وستظهر الايام من الذي سيحترق بالفعل في “محرقة غزة”، أهو فقط الاجساد الطاهرة لابناء القطاع المجاهد، أم انه المشروع الصهيوني العنصري الفاشي التوسعي وقد بات مترهلاً بكل المقاييس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى