المقالات

بيروت الشهيدة / كتب: د قصي الحسين

تعاون المتعامل والمتآمر، على قتل بيروت، قبل بلوغ حكم “المحكمة الدولية” في الجريمة التي أودت بالرئيس الشهيد رفيق الحريري . كان يؤجل إعلان الحكم كل يوم ، كل إسبوع، كل شهر، كل فصل، حتى تلفظ بيروت، أنفاسها الأخيرة. حتى تبلغ الشهادة.
كلما دنت المحكمة، من موعد ضربته، لإعلان الحكم، تشتد أزمة من الأزمات على لبنان، فيؤجل الإعلان.
من “ثورة17تشرين”، إلى أزمة سقوط حكومة الوحدة الوطنية، إلى الإنهيار الإقتصادي الذي ضرب لبنان، إلى تشكيل “حكومة المستشارين” ، إلى محاصرة لبنان إقتصاديا والسطو على أموال المودعين.
إلى الإرتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار. إلى مقاطعة “حكومة حسان والحسناوات” عربيا و دوليا. وإلى تشتت الثوار وتفتت الثورة، وتشغيل الثوار على القطعة، وعلى الرقعة وعلى الساعة، وتلزيم الجسور والمحولات والأوتسترادات، لقطعها على الساعة، كما تقنين الكهرباء والماء.
إلى الإنفجار الكارثي في المرفأ الذي جرف الناس والحارات والشوارع والدارات. و إسقاط الحكومة في “بيت الطاعة”، بعد قصة شعر .
كل ذلك أدى إلى قتل “الأميرة بيروت” وإستشهادها، وذبحها على ركبتي البحر لخاطر “تل أبيب”. فكانت “ثاني ذبيحة” بعد عصر “إسماعيل الذبيح”.
إستقالت حكومة الحريري، فسارعوا لذبح بيروت الغربية.
وتقدمت “حكومة” حسان دياب وحسناواته، فربضت على صدر الأميرة بيروت حتى تموت.
أطبقت على أنفاسها في الشرقية كما في الغربية، ولم تعف عنها، إلا بعد الإنفجار الكارثي الذي ضرب مرفأها فأحاله قاعا صفصفا، وأحال بيروت الشرقية، إلى ركام.
بيروت اليوم شهيدة “لعبة الأمم”. بيروت اليوم شهيدة “لعنة الأمم”.
كان الوسط التجاري، درة تاجها. نزلوا إليه وحطموه على رأسها. نزلوا إليه وأغلقوه بالجدران والأسلاك والبوابات وبالأسوار. حولوه إلى “أحواش و حظائر كبيرة”.
كانت السراي الحكومية، تزين جبهتها، فأحاطوها ب”جدار الفصل الشعبي”، أين منه “جدار الفصل العنصري”.
كانت أسواق بيروت، تضج بالزائرين، طيلة الأيام. وطيلة المواسم. وطيلة الأعياد. وطيلة المناسبات. كانت معارض للزينة والأناقة والجمال.
كان شارع الحمرا كأنه ربيع الناس في كل الفصول. تحت المطر وتحت الشمس. تحت الحر وتحت الصقيع. مات شارع الحمرا ومات معه شارع المقدسي وشارع الصيداني وشارع بوردو وجنبلاط وكليمنصو وفردان وعائشة بكار ومدحت باشا ومار إلياس والصنايع والزيدانية وزقاق البلاط والبطركية.
مات رأس بيروت. لم يسلم فندق ولا ناد ولا حانة ولامقهى ولا إستراحة، إلا مات. حتى صخرة الروشة طأطأت رأسها من هول المصاب، وتمددت قتيلة وإستسلمت للبحر.
كان “شارع مونو” واليسوعية والسوديكو متنفسا بديلا. مات شارع مونو. كان حي سرسق، ومتحف سرسق يتراقص فيه الناس ليل نهار. كان شارع عبد الوهاب الإنكليزي، مقصد الناس. مات عبد الوهاب الإنكليزي، وشبع موتا، بعد الثورة وحكومة الحسناوات.
كانت الأشرفية وساسين والسيوفي دارات السهر وجادات اللهو. أطفأ “غجر” قناديلها، فإحتشد فيها الغجر من كل الأعمار والأجناس.
كانت الجميزة ومعها “درج الفن”، و”درج غلام”، قبلة الساهرين، وقبلة السائحين والمتنزهين، من شارع غورو حتى شارع مار مخايل.
ماتت الشوارع والأرصفة العامرة، بالضربة القضية دفعة واحدة. مات معها الرميل والمدور وجاورجيوس والجعيتاوي.
مات نهر بيروت. وسجي في الرابع من آب2020، جثمان القتيل.
كل المحال احيلت إلى ردهات الموت دفعة واحدة. دفنت الشوارع والمتاجر والمطاعم والحانات بروادها. لم يبق شيء من محيط المرفأ ولا محيط الخضر والكرنتينا ولا ال الدورة ولا الفورم.
لم يبق شيء من محيط الأميركية ولا محيط إستاركو، إلا تهاوى في “ساعة عربدة و مجون”، وفي ثواني العصف المجنون.
“كل من عليها فان”.
صارت بيروت قاعا صفصفا، بعد زلزال الرابع من آب.
لم يبق إلا العملاء والمتعاملون. لم يبق إلا المتآمرون.
ثلة المجالس وطرابيش القصور وأعيان دوائر الفساد والإفساد، يحضرون أنفسهم لإقتسام إرث “بيروت الشهيدة” من جديد.
طوابير السماسرة ومواكب الغربان، وجوقات المراثي والأناشيد، ومنصات البيع والشراء والتوسل والتسول على الهواء.
والأذاعات والشاشات، وبرامج ما يطلبه المشاهدون.
وبرامج: “طمئنون عنكم، عنواننا المخيم العشرون”.
كل ذلك وأكثر.
كانوا يحضرون مأتما يليق ب”بيروت الشهيدة”.
وفي الجوار القريب، تنهض “تل أبيب”، يرتسم علم الإمارات على جدرانها، يدعو الزائرين والمصطافين وأهل الخليج إلى مطارها.
ماذا يجري حولنا:
من صاروخ الإمارات، إلى صاروخ بيروت، فإذا الكل قد عفا.
بيروت الشهيدة، تصرخ حية تحت الركام.
بيروت الشهيدة تلعن سادات الفساد. وسادات التآمر والعمالة والإرتهان.
بيروت الشهيدة،لا تراقص الأعداء.
تطرح موتها من جديد. تنهض من رمادها، تلوح للشمس والماء، بمرايا حورية البحر، قبالة صخرة الروشة. تعد نفسها بنفسها، تعدنا( بالدال المشددة)، تعدنا للنهوض من جديد.

د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى