المقالات

الاستحقاق الانتخابيّ المقبل في لبنان… و النموذج الثوريّ الكوبيّ للتغيير

جمال دملج \ رئيس التحرير

ربّما ليس من باب المبالغة القول إنّ أكثر ما يحتاج إليه اللبنانيّون في الوقت الراهن؛ مع اقتراب موعد توجّههم إلى مراكز الاقتراع، يوم الأحد المقبل، للإدلاء بأصواتهم في معركة العام 2022 الانتخابيّة، يتركّز أولًا وأخيرًا على وجوب إقناعهم بحاجتهم الماسّة إلى تبنّي نموذج ثوريّ فعّال يمكن أن يخلّصهم من تبِعات ومخلّفات تراكُم الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة المتتالية تباعًا على إيقاع تكتكات الثواني في حياتهم اليوميّة، ولا سيّما الأمنيّة منها التي كانت قد تجلّت قبل عدّة أشهرٍ في منطقة الطيّونة في بيروت، وأعادت إلى الأذهان ما ترافق مع الحرب الأهليّة (1975 – 1990) من مشاهدَ مروّعةٍ وصورٍ دمويّةٍ، وكادت أن تتسبّب في إيجاد المبرّرات الكافية لتقريب موعد دقّ المسمار الأخير في نعش بلدهم قبل أن يُوارى الثرى عن طريق دفنه في غياهب المستقبل المجهول.

اللبنانيّون يعرفون تمام المعرفة أنّ “طائر الفينيق” الذي دائمًا ما درجت العادة على أن “ينهَض من رماده”، أوشكَ بدوره على الانقراض تحت وطأة هذه الأزمات الوطنيّة المتتالية؛ بما فيها تلك التي اشتدّت إلى أقصى وأقسى الدرجات خلال الأعوام الثلاثة الماضية، بذرائعَ مختلفةٍ وبأذرعٍ عديدةٍ، سواءٌ قبل انطلاقة “ثورة 17 تشرين الأوّل” العام 2019 أم في أعقاب انطلاقتها، الأمر الذي أصبح يُحتّم عليهم النظر بجدّيّة إلى المغزى والمعنى الكامن بين حروف الشعارات التي رفعوها؛ ومن بينها شعار “كلّن يعني كلّن”، تمهيدًا لتوفير المناخات الملائمة لطرح شعاراتٍ أكثرَ عقلانيّةً من شأنها أن تُجنّب البلد من مخاطر الانزلاق إلى الدوّامات التي لا تزال غالبيّة الدول العربيّة الشقيقة تتخبّط في متاهاتها على خلفيّة التطوّرات المستجدّة في سياق ما اتُّفق على تسميته؛ مجازًا، بـ”ربيع العرب”.

ولعلّ شعار “التغيير في إطار الاستمراريّة” الذي رفعه الرئيس الكوبيّ السابق راؤول كاسترو، لدى تسلّمه مقاليد الحكم في الجزيرة الشيوعيّة إثر مرض شقيقه الأكبر (الراحل) فيدل كاسترو، أواخر شهر تمّوز (يوليو) العام 2006، يُعتبر من أكثر الشعارات اللافتة التي ينبغي على اللبنانيّين النظر إليها بعقلانيّةٍ، ولا سيّما إذا وضعنا في الحسبان أنّ النظام السياسيّ اللبنانيّ المعتمَد منذ ما يزيد عن المئة عامٍ من الزمان قائمٌ في الأساس على قواعد المحاصصة الطائفيّة والمذهبيّة بين المسلمين والمسيحيّين في إطار “الصيغة الميثاقيّة” المعروفة، الأمر الذي يعني في المحصّلة النهائيّة أنّ تبنّي شعار “إسقاط النظام” أشبه ما يكون بالمشي سيرًا على الأقدام داخل حقلٍ مفخّخٍ بكافّة أنواع الألغام والعبوات الناسفة، وخصوصًا في بلدٍ كان قد شهد في الأصل، خلال عقديْ السبعينيّات والثمانينيّات من القرن العشرين، حروبًا شرسةً أودت بحياة عشرات الآلاف من أبنائه، وكذلك من العابثين الخارجيّين بأمنه وسيادته على حدٍّ سواء.

وعلى الرغم من أنّ مبدأ العقلانيّة المذكور لا يحمل في سياقه هنا أيَّ تشكيكٍ في نزاهة أو صُدقيّة المطالب التي نادى بها الحراكيّون والحراكيّات لدى النزول، قبل ثلاثةِ أعوامٍ، إلى ساحات وشوارع المدن الممتدّة على طول خارطة الجمهوريّة اللبنانيّة وعرضها، تمامًا مثلما لا يستهدف، في سياقه أيضًا، الترويج لأيِّ نيّةٍ من شأنها أن توحي بأنّها ترمي إلى تبرئة غالبيّة مكوّنات الطبقة السياسيّة الحاكمة والمتحكّمة في البلد منذ عشرات السنين من الذنوب التي اقتُرفت في ميادين الفساد بحقّ الوطن، فإنّ العبرة التي ينبغي على اللبنانيّين أن يضعوها على رأس قائمة أولوياتهم، مع اقتراب موعد الاستحقاق الانتخابيّ المقبل، تتمثّل في وجوب التركيز على الهوامش الضيّقة ما بين الصحّ وما بين الخطأ في فضاءات الشعارات المطلبيّة التي تمّ رفعها في “17 تشرين”، ولا سيّما إذا أخذنا في الاعتبار مسألة في غاية الأهمّيّة مؤدّاها أنّ سعر صرف الدولار الأميركيّ خلال مرحلة ما قبل انطلاقة “الثورة” كان ثابتًا عند سقفِ الألفِ وخمسمئةِ ليرةٍ لبنانيّةٍ بينما تجاوز لاحقًا سقف الثلاثين ألفًا.

علاوة على ذلك، فإنّ مَن يُوصفون بـ”حيتان المال” كانوا يشعرون لغاية يوم السابع عشر من شهر تشرين الأوّل (أكتوبر) العام 2019 بالاطمئنان على ثرواتهم داخل المصارف اللبنانيّة، خلافًا لما راحوا يشعرون به لاحقًا عندما بدأوا بتهريب تلك الثروات إلى الخارج، بما فيها أموال المودعين اللبنانيّين الصغار، الأمر الذي تسبّب في إحداث أسوأ الكوارث الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي شهدتها البلاد في تاريخها القديم والحديث.

وإذا كان التاريخ اللبنانيّ قد سطّر على صفحاته حيثيّات الكثير من المراحل المشرقة، ومن بينها على سبيل المثال وليس الحصر ما دأبت إحدى المسؤولات الرسميّات النرويجيّات في وزارة الخارجيّة في أوسلو على التحدُّث عنه بشأن مرحلة عملها كمضيفةِ طيرانٍ على متن الخطوط الجوّيّة لبلادها، خلال أواخر الستّينيّات وبدايات السبعينيّات من القرن العشرين، وخصوصًا عندما تركّز على القول إنّ زميلاتها المضيفات كنّ يتنافسن مع بعضهنّ البعض من أجل المشاركة في الرحلات المتّجهة إلى بيروت بغية التمتّع بالأجواء اللبنانيّة، فإنّ الأمانة الأخلاقيّة تحتّم علينا أن نقول اليوم إنّ اللبنانيّين أنفسهم لم يُسبّحوا ربّهم بحمْد هذه النعمة، ولا سيّما بعدما راحوا يفقدون السيطرة؛ بالتدرُّج، على دفّة القيادة في سفينتهم المتّجهة؛ بالتدرُّج أيضًا، صوب الأقدار الجهنّميّة المحتَّمة منذ سنوات حربهم الأهليّة ولغاية يومنا الراهن.

أقدارٌ، وإنْ كان الرئيس اللبنانيّ العماد ميشال عون نفسه قد وصف وجهتها؛ قبل عامين، بأنّها تقود إلى “جهنّم”، ولكنّ الأمانة الأخلاقيّة أيضًا تستوجب التأكيد على بديهيّة مؤدّاها أنّ لدى اللبنانيّين، بمن فيهم الحراكيّون والحراكيّات، ما يكفي من القدرة لتحويل إبرة بوصلة “الثورة” صوب الاتّجاه الصحيح والمعاكس لاتّجاه جهنّم، إذا ما أخذوا في الاعتبار أنّ شعار “التغيير في إطار الاستمراريّة” يفوق أهمّيّة؛ بجدواه التكتيكيّة، على شعار “إسقاط النظام”، وخصوصًا داخل بلدٍ وصل الورم الطائفيّ والمذهبيّ والكيديّ في أوساط غالبيّة أبنائه حتّى النخاع، فضلًا عن أنّه غارقٌ أصلًا؛ حتّى الأذنين، في بحور العتمة والمديونيّة والمحسوبيّة والاستزلام والانقسام والارتهان تحت راية “الميثاقيّة التوافقيّة” من دون ثوراتٍ سلميّةٍ أو مسلّحةٍ ولا من يحزنون.

على هذا الأساس، وبالنظر إلى دلالات القول المأثور عن أنّ “ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأملِ”، في المعنى والمغزى على حدٍّ سواء، فإنّ ما ينبغي على أصحاب حقّ الاقتراع فعله، الأحد المقبل، يتمثّل في وجوب التمسّك بـ”الأمل” عن طريق الاعتماد على مبدأ “التغيير في إطار الاستمراريّة” وليس العكس، انتظارًا لظهور نتائج الانتخابات، وتفاديًا لحدوث ما يمكن أن يندرج في سياق “الآتي الأعظم” على خطوط التوتّر العالي الممتدّة في مختلف أنحاء العالم، على الصعيدين الإقليميّ والدوليّ.

ولعل العبرة في فحوى ما تقدَّم، تتمثّل في وجوب استرجاع فحوى ما جاء يومًا على لسان الراحل فيدل كاسترو عندما قال: “إنّ الفكر أقوى من السلاح”… والخير دائمًا من وراء القصد.

المصدر: موقع الأممية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى