المقالات

ليلة الأقصى – د. قصي الحسين

إنها أكثر من سيرة ذاتية تلك التي يكتبها الفلسطينيون بعامة، والمقدسيون بخاصة، في المسجد الأقصى ، في القدس، في العشر الأخير من رمضان، هذا العام ، أيار – 2021.
على إمتداد الليالي البيضاء في العشر الأواخر من شهر رمضان، تنطلق القدس، من إحياء جهاد الليل، في المسجد الأقصى. تطرح الأسئلة الصعبة: ماهي كتابة حياة: كتابة الحياة. الحياة المشغولة كنص ، في سيرة الإسراء والمعراج؟. كيف نصون إبتداء الحياة وحركتها، بينما يغلق الإحتلال المعنى، ويلمح قادما من جهة الموت؟ وفي سيرة القدس، كيف لا نفصل تفصيلا، حياة المقدسيين، وحياة فلسطينيي الداخل، وحياة أهالي الضفة والقطاع، في جهادهم اليومي، في وجه المستعمرين الإسرائيليين. في وجه الغاصب والمحتل.
في “ليلة القدس”، في العشر الأواخر التي يحييها المقدسيون في المسجد الأقصى وباحاته الممتدة، على كامل التراب الفلسطيني، يكون قد بدأ شغف المقدسيون، في أبواب الشيخ جراح، وباب العمود، وكنيسة القيامة، بالسيرة، بخاصة في جهاد الليالي البيضاء، تحت قباب التاريخ الفلسطيني المكتوب بالدماء.
هو شغف من أجل الحياة اللذيذة، والموت اللذيذ، في رحلة البحث الطويلة، عن الوجه المجرد للمعنى، في وجه المعنى الجهادي، فوق التراب الفلسطيني المقدس.
الجهادي والتاريخي والليالي المسرودة، بالدخان وبالنار، وبالإعتقال، عيش يومي على الأرض، مشغول بالأمر ذاته، يشكل المعنى: أن يسرد المقدسيون كل تاريخهم، في مثل هذة الليالي البيضاء، في باحات المسجد الأقصى. ينظرون إلى السماء، من زاوية الإسراء والمعراج، والقيامة. يفترشون الأرض بأجسادهم، يرصفونها رصفا. كما في بلاط الأحياء والشهداء. في كل زاوية، وفي كل باب، وفي كل زقاق، وفي كل شارع. حين يشخب بالدماء، وبالأنفاس الصاعدة، إلى باب السماء.
المسجد الأقصى، في ليلته، في وسط القدس، يسهر بعينين نصف مغمضتين، تخترقه آلاف الجموع، من الجمل. يشير الأقصى، إلى الإثارة الروحية للرمز، عندما يعود من نهج إمبراطوري للرموز، ضد العقائد التي رفعت مداميكه إلى السماء. قببتها حتى تصير صالحة للسجود والصلاة.
المسجد الأقصى، يعرف لياليه البيضاء، الساهرة بعيون السماء، بأنها معترك دائم. بانها عراك دائم، بانه معركة دائمة، من أجل الدلالة على المعنى، من أجل فخامة المعاني. من أجل قداسويتها، وقدسيتها، على حد سواء. من أجل قيادتها للناس، يؤمونها. من أجل تحريرها من الإرتياب.
ليست ليالي الأقصى، ولا ليلته الأخير التي هوت إليه، بتلك الجموع، هي التي تثير الإهتمام، في أقاصي الأرض، بالمعنى التجريدي. بل اللغة الجديدة القديمة، المنطوقة بالأجساد. المنطوقة بالجثامين على الأكف. إستطاع الأقصى، أن يأتي بها. أن ينتزعها في سفر الروح. في إسرائها.في معراجها. في صعودها إلى السماء. أن ينتزعها من الصوت فقط. من المعنى فقط. من الحج فقط، عند كل دعاء. إنه آنئذ، مجرد وميض من المعنى، أو خدش من الضوء.
ليلة الأقصى الآخرة الأخرى، لا الأخيرة، ليلة الأقصى الفذة، ألقت الضوء، على مصفوفة الفراغ في حياة العالم العربي. في حياة العالم الإسلامي، في حياة العالم المدني.
الأقصى، صاحب هسهسة الألفاظ والمعاني، وجميع أسطوريات الموت اليومي، والكتابة اليومية، على جدرانه بالدماء، إنما هو مفجوع بأسطوريات النقص، الذي يحدثه موت الآباء اليوم في معاركه البطولية، وكذا غياب المكانة بين شعوب الأرض. إنها الفجوة في الإنتماء إلى عالم بلا روح، بسبب النكوص في التعاليم. بسبب مرض الإنسانية. بسبب غياب الشهادات الدولية له، والتي جعلت مصفوفة الفراغ كلها، تمتلئ بالبحث اللانهائي عن معنى الكتابة بالأجساد وبالأرواح، وبالدماء.
ليلة الأقصى، إكتشاف كل شيء في العراك. إكتشاف السرد المقدسي، وتحديد الإشكاليات المستجدة لدى المستوطنين والمستعمرين، وتنظيم الثوابت البنيوية التي تغير أشكالها على الدوام.
إنه لشكل من أشكال التقسيم الزمني المتسلسل، للأيام و للأسابيع وللأشهر وللسنوات، لتدوين سيرة الأقصى، منذ “الإسراء والمعراج”، وما قبله، وما بعده، لتحرير سيرته، في أبرز محطاتها، من تأثير الروح في نواحي التراب المعجون بالشهداء.
ليلة الأقصى، تكتب سيرة الخروج من عباءة التقليد في الخنوع، لتطبيق بعض خطوط البنيوية على إحدى القبلتين، وثاني الحرمين، من التقطيع النصي، لمعنى الحراسة الليلية، ومعنى إستكشاف أسلاك روحية، تحت أرضية، تربط أزمنة غير متتالية، على السطح.
ليست الأحداث اللاحقة في زمنية السنوات، تشكل أسبابا للأحداث السابقة. فليلة الأقصى لا نعرفها، بل نلاحظ لأول مرة أنها مقلقة.
الجدران المضيئة بالأحجار العظيمة، كما القبة المضيئة، هل تنتصر على مصفوفة الفراغ، في العالم العربي والخارجي، الفارغ من المعنى؟.
تستوقفنا ليلة الأقصى، انها واحدة من ألعاب المستعمرين والمستوطنين الأخرى، في العلاقة المتوازية، بين الموت والحياة والنص، لا بين الحياة والموت فقط.
فالغياب، إنما هو موت المعنى، ولذلك يصبح إحياء ليلة الأقصى، هدفا مباشرا، لعناق الألفاظ والأرواح. وغياب المعنى، إنما يستحث المقدسيين على المعرفة: يخبرهم عن الموت في المستقبل.
يعرف الأقصى، أن ذبوله، أو أن موته، سيكون فوضويا في العالم. وأن يوميات الحداد، التي يحياها، إنما تحقق إستشرافه، بمواجهة دائمة، تعودها. إعتاد عليها، منذ محاولة إحراقه، ومنذ محاولة إقتلاعه، بحثا عن الهيكل المزعوم.
ليلة الأقصى تقول: أنا لا اعرف كيف أرتب أمري. غير أني أعرف كيف أحب.
حزينة ليلة الأقصى، ولكنها عنيدة، لأنها إعتادت منذ آلاف السنين، على الإنتصار على الموت، بأبنائها.

أستاذ في الجامعة اللبنانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى